بعض ذكريات ميتة.. ثمة أشواق الى زمان الصِِّبا..! فوق هذه الأرض غدر القذافي ببابكر النور وفاروق حمد الله.. غربتي كانت غدراً، وطيفاً ، وأمنيات بالعودة الى وطن طرد أحبته، وآوى سارقيه..! وجهها لا يغادر مخيلتي..الوجوه التي جذبني بريقها ضاعت في العتمة..تبدد وهج الليالي مثل خاطرٍ كسيرٍ..كان لها عبقٌ، مثل تباريح الهوى، مثل لدغة شاي الصباح التقيل، مثل بلل السلام على المسافرين..! هذا أوان النشوق، و هذه سعية الله يجذبها حنين الصعيد..! وقعت الواقعة، فخرجتُ من مجاز الوطن.. كانت الزغايد تشيل وتحُط هناك، مثل برق القبِلي..أغدقت على نفسها الكثير من عطر الليل الكافر و تحررت من ظنوني، ثم ظعنت الى ما وراء البحر، ومضيت أنا نحو غربتي في الصحراء..! وجهها الغائب يبعثرني..هذا مطر الشتاء في الليل..المطر الذي قال المُغني، أنه يجدد عذابات الأرصفة..! في طريق الحياة، يضع الواحد منا أشواقه في سلال الايام، فتمضي الأيام..! قادتني خُطاي إلى المدنٍ التي ترضع (المالبورو)..هذه مدينة الزاوية الليبية ، تبدو خاليةً من شيئ إسمه النساء..! ليس بها في هذه الساعة من الليل، سوى السكون و أزيز خطواتي المُتعبة التي تفرُك أسفلت الشارع.. اليوم تتوالد فيها اللُحي كما يتكاثر الباعوض.. يخرج اليوم من «استاتيك» الجماهير نبع فوضى لا يحتويها العسس، ولا تجففه الراجمات..! الثورة صارت عبئاً ثقيلاً ،و«سفّاية» من تٌراب، و أنا محض أجير..أنا هنا «أقدم عاصمة للحزن».. نار الخبز تمسح عن ذاكرتي كل لحظة عشق راودتني..لا قيمة للحنين الى وطن كله دواعش..! تجشمتُ وعثاء السفر مع طيف حسبته مات منذ عهد بعيد..! طيفها لاينام.. ذات صباح شاتٍ جاءني صاحب القيطون.. رجلٌ قديم، أكل الدهر على وجهه،، أرى خربشة الزمان في مقلتيه..عيناه الخضراوان تحكيان فصول معركة نشبت في غير ما هدف، سوى تمكين الطليان في الساحل الجنوبي..! هكذا يفعل البشر دائماً ،، يتصارعون من أجل ربوة عالية أو شبر تراب،، وليس بعدالظفر، إلا نار السموم..! أقرأ في بؤبوء عينيّ العجوز فوضى عراك، وصهيل خيول..! رجل غابر ، خالٍ من العاطفة ، لكنه ليس دهرياً كعواجيزنا.. صوته مثل رغو جمل الكُبْيل.. كأنه نشأ من فعلة طليان سكارى..! في سِمته ملامح القذافي، الذي لن يدرك أبداً، أعداءه الحقيقيين..! تصفّحتُ وجه العجوز، كما يتصفح السواح بقايا القحوف في أقجة و أقجنندي ..غرقت روحي في تجاعيدٍ كخطوط الريحٍ في العتامير..على شفتيه أسى، على ماذا يتأسى وقد لبِث فيها احقاباً، ولم تطله يد الصالح العام..!؟ ماذا يريد عجوز مثله بعد النكسة، وما جدوى الثورة بعد تأميم الأحلام..!؟ لِمَ الحَزَنْ، إن كانت لديه في كل مدينة، شارعان يتعامدان كأعواد المشانق، أحدهما لعمر المختار والآخر لعبد الناصر..!؟ تداهمني هواجس الغريب وأنا أُشعل النار ريثما يفور العجين..يقولون أن اسرائيل أغرقتهم بالمخدرات..! دعهم يغرقون في الخدر اللذيذ ، فالذكريات خضراوات دِمنْ..! قال العجوز إن الطلاينة غرروا ببدويات الصحراء، فعاجلته «هل ترضى القول، بأن البداوة أُنثى..!؟ لم يفهم مقصدي، فمضى قائلاً إن الطلاينة غادروا أرضه، فاصبح حراً بالثورة.. قالها وهو يعلم أن خفر السواحل، ينتشل مِراراً، جثث الهاربين الى الشاطيء المقابل، من أفواه السمك..! هكذا كان العجوز، يأخذ ويعطي معي في الكلام..لكنه فجأة عاد الى صحرائه..! انتهرني نحو نار الفرن كأنه لم يؤانسني إلا اضطراراً «هيّا يا سوداني، سقِّد روحك»..! «وما شأنك أنت بروحي..أبْكِي هَمّكْ أنتْ..! فقد جاءك الدواعش من الماضي، بخيام الليل»..!