أقلعت الطائرة .. لكن إلي أين !!.. أقلعت الطائرة وحلقت في سماء الخرطوم وكل منا يسلط نظره على النوافذ ليعرف أي الاتجاهات سلكت الطائرة ولكن فشلنا لانعدام الرؤيا فقد كانت الساعة حوالي الرابعة صباحا ، المهم بعد أن أخذت الطائرة في الهبوط فإذا بنا نجد أنفسنا في مطار جوبا كان في استقبالنا ? بكل ترحاب ? بعض قادة القوات المسلحة والشرطة والسجون فبادلونا التحايا وبادلناهم بأحسن منها ورافقونا حتى داخل سجن جوبا ولما اطمأنوا على أحوالنا ودعونا بنفس حرارة استقبالهم وأكدوا لنا أنهم على استعداد لتلبية طلباتنا فشكرناهم وتركونا وديعة عند إدارة السجن. أحسنوا معاملتنا: كلمة إنصاف أقولها للحقيقة والتاريخ ان مدير سجن جوبا ومعاونيه قد أحسنوا معاملتنا وأكرمونا حتى اخجلوا تواضعنا فمن ناحية السكن أعدوا لنا عنبرا واسعاً ونظيفاً ذودوه بالجديد من الأسرة والمراتب والملايات والمخدات والبطاطين ، أما الأكل فقد عينت الإدارة السجن طباخاً خاصاً ليطبخ لنا ما نرغب كل صباح وعينوا لنا سجناء لخدمتنا في النظافة وغسيل الملابس والمراسيل وكان مدير السجن شمالياً يعرف بعضنا عن قرب ، فكان من وقت لآخر يأتي لنا بموائد من منزله ، وحفاظات العصير والقهوة والشاي وعلى قدر ما ألححنا عليه أن يوقف ذلك إلا انه أبي وأصر إصرارا عنيفا (مما أدخلنا في حرج). حقيقة شعرنا بالبون الشاسع بين معاملة الإدارة في سجن كوبر ومعاملة إدارة سجن جوبا ! أضف إلى ذلك المقارنة بين السكن والغذاءات وحرية تحرك المعتقلين بين السجناء . غرائب وطرائف سجن جوبا !... من اغرب الساعات التي قضيناها في سجن جوبا « ساعات التمام اليومي « على المساجين قبل مغيب الشمس ، ففي العصريات نخرج كراسينا يوميا في حوش السجن وأثناء تناولنا القهوة والشاي والسجاير نقضي وقتاً في مشاهدة وقوف المساجين في صفوف كل عنبر على حده ويقف مدير السجن يستلم التمام « تمام يا أفندم « فيأمر بإدخال المساجين إلى عنابرهم وقفلها بالضبة والمفتاح ولا تفتح إلا صباح اليوم التالي . من الطرائف الغريبة التي شاهدناها تتكرر من وقت لأخر يقوم الشاويشية بتعداد السجناء فيجدون عددهم أكثر من العدد المسجل !! مثلا بالسجن 600 سجيناً يعدوهم مرة ثانية وثالثة يجدونهم 620 سجيناً فكنا نصاب بالدهشة في الأيام الأولى لهذه الظاهرة الغريبة التي لا يمكن حدوثها في أي بلد في العالم !! لكن مدير السجن فسر لنا أسباب هذه الظاهرة ليس في سجن جوبا وحده بل في كل سجون عواصم المديريات الجنوبية !! رغم أن أغلبية أهل الجنوب فقراء إلا أن هناك معدمين لا يستطيعون كسب وجبة اليوم ولا يجدون المأوى والغطاء الذي يقيهم البرد بينما في السجون يتوفر السكن والوجبات بليلة أو قراصة والغطاء بطانية والفرش برش وصابونة غسيل كل أسبوع لغسل لبسته ولحمامه إلى جانب الأمن والاستقرار داخل السحن بدلاً عن حالة الضياع في المدينة أو الغابة فيجده التمرد فيأخذه قسرا لجبهات القتال!! * السجن أحب إليهم من الحرية مع الجوع والخوف: أضاف مدير السجن ، أمثال هؤلاء وجدوا أن السجن أحب إليهم من الحرية مع الجوع والخوف !! فأصبحوا يندسون مع السجناء عند عودتهم من نظافة الحدائق وحفر المجاري إلى داخل السجن وعندما شددنا الحراسة على باب الدخول اخذوا يتسلقون حائط السجن ليعيشوا داخله !! وآخر ما توصلنا إليه أن « نقلب « انحناءة السلك الشائك بدلا أن تكون انحناءة الزوي العليا متجهة لداخل السجن لتمنع محاولات السجين الهرب كما هو حادث اليوم في كل سجون الشمال انظروا إلى سور سجن جوبا تجدوننا قد عكسنا انحناء الزوي والسلك الشائك لداخل السجن في اتجاه الخارج ليمنع من يريد تسلق سور السجن من الخارج للعيش بداخله ففي الجنوب نادرا أن يهرب سجين ولكن كثيرا ما يقفز المواطنون لداخل السجن وهي ظاهرة تعكس درجة العدم التي يعيشها اغلب مواطنو الجنوب ! في ظل حكومة 17 نوفمبر العسكرية (58 ? 1964م) فالمسالة أوضح من الشمس في رابعة النهار وما دايره ليها تحليل سياسي أو درس عصر!!