(لئن تفارق، هو أن تموت بعض الشيء). نحنُ لا نموتُ دفعة واحدة. نحنُ نموتُ شيئا فشيئا، طالما قد كتب علينا- هكذا- منذ الأزل، أن نفترق ونفارق.. يبكينا الفراق، ومن البكاء ما يمزق نياط ذلك الذي يضخ دم الحياة، حارا وقويا، في كل ذرات الجسد. (أحبب من أحببت، فإنك،،، مفارق). تلك هي الوصية التي لا وصية بعدها: أحبب روحك، فإنك مفارقها- أو إن شئنا الدقة- فإنها مفارقتك، وكان ذلك من ربك أمرا مقضيا. الروح، ليست واحدة. قد تسكن جسدك، أرواح. لكن تبقى أطيب ما يسكن جسدك من أرواح ، هي روحك الأخرى، تلك التي ائتلفت مع روحك.. روح الآخر الذي تنادي عليه، بكل صدقية شغاف القلب: يا روحي! الروح، تطلع، لكنها، لا تطلع مرة وآحدة. إنها تظل تمارس الطلوع، عند كل ناصية فراق، حتى إذا ما بلغت الحلقوم، من كثرة الفراق، طلعت طلعتها، تلك التي لا نزول بعدها، في أرض الجسد الموات! في صالات المغادرة- والأيادي في الأيادي (باى.. باى)- تلازمني دائما، فكرة أن أترحم، على كل أولئك الذين يموتون بعض الشيء! أنت ترى موتهم بعض الشيء، في ارتعاشة الأيادي.. في نهنهة القلبين بالبكاء.. في عجز اللسان أن يقول شيئا.. في تلعثم الخطاوي.. في نظرة غائمة من كل اثنين.. اثنين.. نظرة- لو ألقيت السمع- لسمعت فيها آهة.. عبرة.. غصة تطعن في القلب! تلك من مظاهر الموت.. الموت بعض الشيء. أنت تموتُ بعض الشيء، كثيرا، ويموتُ هو.. والمتهم الأول والأخير، في هذا الموت، هو الزمن، ذلك الذي يرتبُ اللقيا، ويرتبُ الفراق، ويحشدُ كل ساعاته، ودقائقه، وثوانيه، وثوالثه، ليجعل من اللقيا الفراق، ضربة قاصمة من ضربات (قواصم) الروح! دائما- هكذا- يلعبُ الزمن لعبته الماكرة: يبتسم، يجمع، حتى إذا ما اطمأن أي اثنين.. اثنين، وطاب التلاقي، كشر عن أنيابه، و،، فرّق! ما أطيب اللقيا، وما،، ما أحر الفراق.. وما أكثر أشعار، من أشعروا في الحالتين.. وما أكثر من تغنى- والقلب يصفق- للقيا.. ومن تغنى- والقلب ينزف- بالفراق.. وما،، ما أكثر من نعى- شعرا وأغان- على الزمن اللئيم، مكره، ولامبالاته بالموت.. الموت بعض الشيء: (من عرفتك، كنت حاسس الزمن ليْ، ما بسيبك، وكنت حاسس، رغم حبي، إني زي الما حبيبك، الحنان البينا ولىّ لا نصيبي ولا نصيبك، الزمن عارف مصيرنا حقو ليْ، ما كان يجيبك..)!. غنى المغني- هكذا- وكان الزمن، قد كتب على الاثنين، أن يموت كل واحد منهما، بعض الشيء، بالفراق الحار. كتب الزمن ما كتب، وهو يبتسم، وهو لا يتوقف- كعادته منذ الأزل- ليترحم على من مات بعض الشيء، أو من مات كل الشيء. إنه دائما، يكتب ما يكتب، بلامبالاته التليدة، ويمضي.. يمضي ليكتب لقاءات جديدة، مصحوبة برمز مربع الفراق، ولو بعد حين! حينٌ من اللقيا، كان... وكانت، وكان الزمن، يتربّص.. ليلعب لعبته الماكرة. لعبها.. و،،، كانت هنالك على ناصية الفراق، تموتُ بعض الشيء، وكان هو على الناصية الأخرى، يموتُ بعض الشيء، وكان الاثنان- في الوقت ذاته- ينعيان على الزمن، لعبته تلك الخشنة، الماكرة.. وكانا معا، يبتسمان ابتسامة شاحبة، ساخرة، وفي ذهن أي منهما، البيتان الشهيران المنسوبان للإمام الشافعي: نعيبُ زماننا.. والعيبُ فينا، وما لزماننا عيبٌ سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب، ولو نطق الزمانُ لنا، هجانا!