٭ ومنهم «بركة بنت سيوم الحبشية» أم أيمن حاضنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعند ولادته غسلته وحملته مهرولة نحو جده عبدالمطلب وهي تصيح: أبتاه أبتاه لقد ولدت آمنة ولداً لا ككل الولدان فسمه «محمداً»، ولم تعتد الأعراب تسمية هذا الاسم، وعندما أضحى الرسول صبياً وحتى مماته كان يناديها أمي أمي، رغم أنها قد تناستها الأعراب وجفت أحبارهم بذكر سيرتها العطرة. ٭ علاقة بلاد الحبشة بالجزيرة العربية: - ذكرنا سابقاً أن مملكة «أكسوم» كانت وقبل النبي سليمان عليه السلام من أكبر الممالك في الدنيا، ومن ضمن هذه المملكة، مملكة «سبأ» التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ولم يكن هناك تحديد جغرافي للرقعة التي توجد بها، ولا حتى ذكر اسم الملكة التي حكمتها، حيث التنازع بين العرب والأحباش، فالعرب - خصوصاً أهل اليمن - يزعمون أن هذه الملكة تدعى «بلقيس» أما الأحباش فلهم رأي آخر، حيث يرون أن مملكة «سبأ» جزء من مملكة «اكسوم» معللين ذلك بأن اسم هذه الملكة ورد في الإنجيل وتدعى «ماكدة» ويوافقهم الرأي في ذلك المؤرخ هيرودتس اليوناني وجيمس بروس الإنجليزي وموريو الفرنسي وماليزي الإيطالي ورودلوف الألماني، حيث يرون أن في تلك الحقبة من الزمان لم تكن هناك سوى أربع امبراطوريات وهي: الحبشية واليونانية والرومانية والفارسية. ٭ غزو بلاد اليمن 340 ميلادي: - بذل ملوك الرومان جهداً وفيراً لنشر النصرانية في بقاع الأرض، حيث كانت لهم علاقة حميمة بأهل الحبشة التي توطدت بها النصرانية، ولبعد المسافة ما بين بلاد الروم والجزيرة العربية خصوصاً أهل اليمن الذين كانوا يعتنقون الديانة اليهودية، عليه أوحوا للأحباش لغزو بلاد اليمن حيث تعهّد الرومان للأحباش بمد يد العون والمساعدة، وفي العام 340 م سيطر الأحباش على بلاد اليمن ونشروا النصرانية بها، ومكثوا حتى عام 873م، ولما تأكدوا أن أكثرهم اعتنقوا هذه الديانة تخلوا عنها وتركوها لأهلها. ٭ وعندما إعتلى العرش الملك «ذرعة بن تباب بن كعب الحميري ويلقب «ذو نواس» وذلك من عام 568 ميلادي ملكاً على بلاد الشحر وحضرموت وتهامة ونجران وكان متعصباً للديانة اليهودية، وبدوره شن حملة شعواء على النصارى وحفر الأخاديد وأشعل بها النيران ورمى بداخلها من أصرّوا على البقاء على دين النصرانية وهم أحياء، ولقد ذكر لنا المولى عزَّ وجل في سورة البروج «قتل أصحاب الأخدود «4» النار ذات الوقود «5» إذ هم عليها قعود»6». ٭ وحينما وصل الخبر لملك الحبشة ثار عضبه وأعدّ العدة لنصرة دينه، وكانت تربطه علاقة دينية وروحانية حميمة مع ملك الروم الذي بدوره كان يبعث الطلاب لنجاشي الحبشة لدراسة الفقه من علوم النصرانية، والتتلمذ على يديه، وكان من أعظم علماء النصرانية في تلك الحقبة من الزمان، حيث لم يتوان ملك الروم لمساعدته، وأرسل له بعض من قطع أسطوله التي شقت عباب البحر الأحمر حاملة الجيوش الحبشية بقيادة «إرياط بن أكليلو» وينوبه «أبرهام بن الصباح» والعرب تسميه «أبرهة» لتعريته من اسم أبرهام، أي إبراهيم بلغة أهل الحبشة، حيث حسم السلاح والعتاد والكثرة المعركة لصالح الأحباش، وعُين «أرياط بن أكليلو» حاكماً على بلاد اليمن، وبمرور الزمن استاء الأهالي لسوء معاملته لهم خصوصاً طبقة النبلاء، وصاروا يشكونه لنائبه أبرهام بن الصباح، الذي بدوره أسدى له الكثير من النصح دون فائدة، مما نتج عن ذلك نشوب خلاف حاد وصل إلى درجة العراك، حيث دارت معركة منفردة بينهما من خلالها استطاع «ابرهام» تصفية إرياط والجلوس أميراً على بلاد اليمن، الذين استنجدوا بأهل الحبشة لدفع الظلم الذي نالوه من بني جنسهم حيث انطبق عليهم قول الشاعر: المستجير بعمرو من شدته كالمستجير من الرمضاء بالنار. ٭ أصحاب الفيل: - كان أبرهام يمتاز بالذكاء والدهاء ولكي يمتص غضب نجاشي الحبشة أمر أهل العمارة بتشييد أعظم كنيسة عرفها التاريخ أطلق عليها «القليس» ولا تزال موجودة وإلى يومنا هذا بالعاصمة صنعاء، حيث استبدل الاسم بقصر «غمدان» وعندما علمت قبيلة «ثقيف» العدو اللدود لقبيلة قريش ولإثارة الفتنة أوفدوا ثلاثة من أفراد قبيلتهم وأحدثوا داخل الكنيسة ودنسوا جدرانها بالغائط، ولما علم أبرهام بما فعله الأعراب ثار غضبه وعزم على هدم الكعبة، حيث أعد العدة وأمر جيوشه التوجه نحو «بكَّة» وعندما نزل بوادي «المجاز» ليستقي منها وجد أعداداً من الإبل فاستولى عليها، حينها قدم عبدالمطلب وطالبه برد الإبل إليه، دهش أبرهام وتعجب من أمره وقال له: ألا يهمك هدم البيت وهو دينك ودين آبائك، والله قد زهدت فيك فإن هذا لأمر مثير ، هنا ردَّ عليه عبدالمطلب بمقولته الشهيرة: «أنا رب هذه الإبل وللبيت ربٌ يحميه» حينها أمر أبرهام برد الإبل لعبدالمطلب، وقاد قطيع الإبل حيث أمر عشيرته وأهل «بكَّة» بالخروج منها والتوجه نحو البوادي والجبال التي تحيط بها، وذلك لعدم قدرتهم على الصمود أمام هذه الجيوش، حيث هجم قادة أبرهام وكانت المفاجأة من طيور الأبابيل، حيث وردت القصة في القرآن الكريم كاملة، وماذا فعل الله بأصحاب الفيل. ٭ بركة بنت سيوم «الحبشية» أم أيمن: - سبق وأن ذكرنا بأن عبدالمطلب أمر أهل «بكَّة» بالخروج منها، ومن ضمن هؤلاء بركة الحبشية، وهي الوحيدة من أهل الحبشة الذين خرجوا من مكة، وسبب تواجدها في ذلك اليوم كانت من ضمن جيوش أبرهام، وذلك من أجل تضميد جرح المقاتلين، أضف إلى ذلك اعتناقها للنصرانية ومعرفتها بعراقة هذا البيت العتيق، ولما وضعت المعركة أوزارها وتوافد أهل «بكَّة» نحو الكعبة، كانت بركة الحبشية من ضمن هؤلاء القوم وهي باكية صائحة ولا يدري القوم ماذا تقول، وبدورهم أتوا بها لشيخ «بكة» عبدالمطلب، وكانت أسارير وجهه باسمة مما خفف عنها ذلك الحزن والخوف الذي كان ينتابها، وأصطحبها معه إلى داره، وأضحت تخدم زوجة ابنه عبدالله آمنة بنت وهب الذي توفى زوجها وهي حبلى، ولما وضعت آمنة مولودها غسلته بركة ولفته بلفافة وحملته مهرولة نحو جده عبدالمطلب وهي تصيح أبتاه أبتاه، هنا انزعج، ولم يدعها كما اعتادت الأعراب أن تدعو سبايا الحرب يا جارية، بل قال لها ما الخطب يا بركة وما الذي تحملينه بين يديك؟ حينها أفصحت بركة: أبتاه لقد ولدت آمنة ولدا ولا كل الولدان، وجهه كالقمر المضيء فسمّه محمداً، هنا رد عليها عبد المطلب إنت بركة يا بركة، وطلبك مجاب، وأسميته محمداً ليكون محموداً في السماء وعلى الأرض، حيث لم تعتد الأعراب أن تسمي محمداً، هذه هي بركة الحبشية، وهي أول من أرضعت المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانت تطعمه وتسقيه وتسهر لسهره وتفرح لفرحه وتحزن لحزنه، وعندما بلغ سن السادسة أرادت آمنة بنت وهب زيارة قبر زوجها عبدالله بن عبدالمطلب «بيثرب» المدينةالمنورة حالياً حيث اصطحبت بركة الحبشية لرفقتها معها، وذلك من أجل المساعدة، أضف حب طفلها محمد لبركة، ولما قدمت يثرب نزلت بدار أخوالها بنى النجار ومكثت معهم شهرا،ً وعند العودة وبمنطقة «الإبواء» أصابت آمنة بنت وهب حمى الحصبة وإصفر لونها وأصاب جسدها التعب، فأصبحت غير قادرة على الحركة، حيث أضحى طفلها يرتمي على أحضان صدرها يصيح أمي أمي، وتارة يرتمي على جسد بركة متسائلا:ً ماذا أصاب أمي، حينها فارقت آمنة الحياة وطفلها منكباً على صدرها يبكي لا تتركيني يا أماه لقد صرت وحيداً، هنا رفعت بركة أكف الضراعة نحو السماء مرددة اللهم أعني على تربية هذا الطفل، واستجاب الله لدعائها وذلك بأن تربى أعظم وأشرف خلق الله سيدنا محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام تلك التربية التي تركت آثاراً في نفسيات الرسول الكريم مما جعله بأن يوجه صحابته لبلاد الحبشة ظناً منه بأن أمه بركة مثال للأخوة، أضف إلى ذلك أن بها ملك لا يُظلم عنده أحد، وهو «أصحبة بن أبحر بن أريحا» حيث نتعرض لسيرته لاحقاً، عليه هنيئاً للأسر السودانية التي بها مربيات فهن حفيدات بركة الحبشية.