ما زلت ممتناً لكل صوت طرق مسامعي، ثناءً وتقريظاً، لما يجود به القلم عبر هذه المساحة كل أسبوع، فالتواصل شيء مطلوب، والقلم الذي يحتفي بنتاجه الآخرون من الأصوب لحامله كسره والنأي بعيداً عن محراب الكتابة والتعبير.. منذ دخولنا بوابة العروسة، قبل نيف وستين يوماً، وجدت نفسي وما زلت، أسيراً مقيداً بمشاعر الآخرين، الذين طوقوا العنق بدين ثقيل، وداً ومحبة وحسن تعبير... اليوم نطل من شرفة جديدة، نرفع القبعات لرمز ساد اسمه بين الناس، سما بفنه حتى حاز على مراتب الإجماع.. فى بربر كان ميلاده ونشأته، حرص والده «كمساري» السكة الحديد محمد أفندي داوود، أن يلحقه بخلوة الشيخ عبد الصادق عبد الله ببربر، كحال الصبية والصغار، خطا بعدها نحو «الكُتّاب»، يميزه طوله الفارع وبسطة جسمه المعروفة حتى يخاله من يراه أنه معلم صغير إلتحق بالتدريس، وكان ترتيبه الأول على أبناء دفعته، جعلته إدارة المدرسة «الألفة» على الفصول كلها، اتجه عبد العزيز محمد داؤود،لإبراز قدراته ومواهبه الكامنة، فعكف على تلحين الأناشيد المدرسية، لتتعدى شهرته بربر لتصل إلى الدامر وعطبرة بعد أن برع في أدائها بصوته الرخيم. كان عبد العزيز بسلوكه ذاك، قريباً من أسرة المدرسة، الناظر حسن علي والأستاذ بشرى عبد الرحمن المقبول، الذي خصه بعناية خاصة، إثر سماعه له يردد بعض المقاطع، «أرجو أن توطن نفسك يا ابنى كمغني ينتظره مستقبل باهر، وعليك أن لا تهمل دروسك، ويمكنك بما لديك من مقومات،أن تجمع بين الإتجاهين، الدراسة والإنشاد. كلف عبد العزيز بالغناء وتعلق به، من خلال سماعه للاسطوانات، وكان اهتمامه وقتذاك منصباً على تلاوة القرآن وتجويده والتفوق في الإنشاد الصوفي لمدائح الأحمدية من «الزاوية» التي تجاور منزلهم، ومن أول الأغنيات التي مست شغاف قلبه وتركت أثراً في نفسه «غزال البر يا راحل» للفنان زنقار، سمعها عبر الفنوغراف، ثم حفظها وما انفك يرددها بدلاً عن الأناشيد، فاتسعت دوائر شهرته داخل المدرسة وخارجها، فكانت تأتي مشاركاته المحدودة، في بعض المناسبات الأسرية، حتى نجح بعض زملائه الطلاب أن يوقعوا بينه وأسرة المدرسة، عندما وشوا للناظر إن عبد العزيز أهان المدرسة بغنائه في بيوت الأفراح، فتم عقابه بالجلد والفصل النهائي. توفي والد عبد العزيز، فدخل الفتى اليافع في دوامة من الحزن والضياع، تجاوز مرارتها بتعيينه في وظيفة بالسكة الحديد تؤهله مستقبلاً ليحل مكان والده، وبدأ عمله «محولجيا» يتقاضى أجراً معلوماً يكفيه الصرف على نفسه ووالدته في بربر. بدايته في الغناء كانت مع زميله التجاني محمد عثمان، حيث كانا ينثران السلوى والمرح على زملاء المهنة بالمحطات المختلفة، حتى لقائه بزنقار في إحدى حفلات بربر، حيث تعرف عليه وتزود بعدد وافر من أغنياته، مفتوناً «بالكبريتة» التي كان زنقار يضبط بها إيقاعه، ومنها كانت الكبريتة رفيقاً ملازماً ل «أبو داوود» في رحلة مشواره. ترك أبوداوود العمل في السكة الحديد، وعاد إلى الخرطوم ليلتحق بمطبعة «ماكوركوديل» فكان من أشهر الفنيين الذين برعوا في صف الحروف وجمعها، زامله في هذه المهنة الفنان صديق الكحلاوي، أقبلت على أبي داؤود مطبعة الشرق الأوسط ومطابع صحف السودان الجديد، صوت السودان، الأمة والنيل، كان عمله بها كوردية ثانية، بعد «ماكوركوديل»، هناك التقى عبد الله رجب، أحمد يوسف هاشم، محمد أحمد محجوب، أمين بابكر وغيرهم من الصحفيين والكتاب.. تمددت معرفته بفنون الطباعة حتى أصبح خبيراً في قراءة الخطوط، قويت صلته برحمة محمد سليمان، وعثمان جوده، وصالح عرابي، ومحمد عامر فوراوي، والأخير تخصص أبو داؤود في جمع صحيفته «أخبار فوراوى» التي كانت تصدر باللغتين العربية والإنجليزية. تفتحت لأبي داوود آفاق الشهرة الواسعة تسبقها موهبته المتقدة، التي هيأت له الغناء ذات يوم في رحلة بجناين معلوف بالكدرو، وكان من بين حضورها الزعيم الجماهيري مبارك زروق، الذي أدهشه عبد العزيز بأدائه لأول مرة رغم إنهما يعملان في مصلحة السكة الحديد. في الغد اقتاد زروق عبد العزيز ليقدمه للمسؤولين في الإذاعة، غنّى أمامهم «يحيا الحب دام صفانا» لحسن عطية وهي للشاعر خضر حسن سعد، وكان ذلك عام 1948م، بعد ثمانية أعوام من بداية الإذاعة.. قويت علاقته بالإذاعيين الذين وقفوا إلى جانبه منهم كمال جابر، موسى إبراهيم،النور موسى، محمد عثمان إبراهيم، عبد الرحمن ود النداف، حسن القاسم، بكرى مشي، الرشيد أحمد فضل الله، ومن المذيعين خاطر أبوبكر، أبوعاقله يوسف، عبد الرحمن إلياس، محمد صالح فهمي، يسن معنى، صلاح أحمد، عبد الرحمن زياد، حمدي بولاد، حمدي بدرالدين، ابوالعزائم، صالح محمد صالح، محمد سليمان، علم الدين حامد، ذو النون بشرى، السر محمد عوض وغيرهم، حيث أصبح أبو داوود صديق الإذاعة الدائم، تستدعيه للغناء في كل وقت يتخلف فيه أحد عن وصلته على الهواء، مثلما فعلت المطربة فاطمة الحاج، عندما رفضت أداء أغنيتها «على النجيلة جلسنا»، بعد أن تم تقديمها كوصلة سابقة لأمير العود حسن عطية، حل مكانها أبوداوود، وأنقذ الإذاعة من حرج شديد، ليجلس المستمعون على بساط النجيلة الممدود.. كان أبوداوود يكثر من زيارة صديقه، الدرديري عمر كروم، بالموردة، وعرفه لاحقاً بالموسيقار برعي محمد دفع الله، الذي كان حينها في أول سلالم خطواته الفنية، تنامت العلاقة بينهما بشكلها المعروف، لتثمر عدداً كبيراً من الأغنيات منها «أحلام الحب، عذارى الحي، أجراس المعبد، فينوس، هل أنت معي»، وغيرها من قوائم التعاون الوثيق، بعد أن أصاب أبوداوود شهرته الواسعة، صعب عليه الجمع بين الوظيفة والغناء، تفرغ لفنه عام 1951م، وكثر تجواله وسفره داخل السودان وخارجه، حفظ العشرات من أغنيات الحقيبة، كان بارعاً في المدح والإنشاد، وقد عرف بهذه الخاصية، كان متيماً لحد الوله بأغنيات الكاشف ومعجباً بطريقته في الأداء التي عمقها في نفسه صوت الكاشف الفخيم، كانت تعجبه أغنيته «في الشاطئ طاب لينا السمر» لشاعرها سيد عبد العزيز، يقال إن لحنها وضعه شقيق الشاعر يوسف عبد العزيز لاعب الهلال الشهير سابقاً، كان في نية عبد العزيز تسجيلها للإذاعة كما فعل الكاشف، ولكن الأقدار لم تمهله. يحمد لعبد العزيز حفظه بإتقان مئات القصائد التراثية والحماسية وأغاني السيرة، ولعله كان من أكثر الفنانين مشاركة في برامج الإذاعة، تميز بخفة الروح وسرعة البديهة وميله الدائم للدعابة ورواية النكتة، كان ظريف المجالس وريحانة الجلسات، كانت تجمعه الروابط القوية بزملائه خاصة العطبراوي، وله علاقات ممتده بعلية القوم وطلائع المثقفين، أمثال د.محمد عبداللّه الريح، د.حاتم حسين عمر، د. حسن أبشر الطيب، محمد توم التجاني، والدكتور علي المك الذي عبّر بحروفه المرتجفة، لحظة رحيل «أبوداوود» مساء السبت« 4/8/1984م»، بقوله «الليلة بحري دخلت بيت الحبس»، ليتبعها السودان برمته حزناً على «البلبل الشادي» الذي تولى ورحل .. اللهم أرحم أبا داوود، رحمة لا سؤال بعدها، توله يا الله بما تتولى به عبادك المحسنين، غفراناً ونعيماً باقياً لايفنى ولا يزول.