وظّف المادحون تلاحم الشعر النغم لخدمة الوعي، ونزلوا كقادة رأي إلى العامة وخاطبوهم على قدر عقولهم، وتدرجوا بوعيهم حتى غرسوا اللبنات الأساسية للدين.. ومن هنا جاءت المدائح عصيّة على الفهم، حال نزعها من إطارها التاريخي وتجريدها من ثوبها التراثي.. خاصة عند غلاة السلف الذين يصل بهم إهدار البعد التاريخي لتلك النصوص إلى حد اتهام أدب المدائح بتشويه العقيدة والخروج عليها.. والأمر ببساطة هو أن المدائح اعتمدت المرونة في الطرح.. وعايشت الواقع الذي لم يكن يسمح بالإعلان الصريح عن جواهر المعاني.. كان الصوفية، رواداً للوعي عندما جاروا «المُغْنى»، وقاموا بأدلجة الشعر والنغم، مع المحافظة على منهجهم في الإلتزام بأدب القوم، فجاءت المدائح النبوية والصوفية كأنّها صدى لأشعار أفذاذ الطريق من كل الجهات، وكان المادحون على قدر عظيم من الثقافة الإسلامية، فلا نكاد نجد حادثة من الحوادث الواردة في السيرة والتاريخ الإسلامي، إلا وتناولتها أشعار المديح في قالب العامية.. وبهذا أضحت نصوص المدائح، أداة تعبيرية دينية/ صوفية على وجه الدِّقة، تفوقت على الكرامة باعتبار أن الشعر كنمط تعبيري يدل على تسامي الوعي وانسلال ألسنة العامة من أسر الأحاجي والأساطير، إلى تبني معانٍ جديدة لثقافةٍ تتمتع بذاكرة حيّة وثقافة مدوّنة، تنهل من معين القرآن.. ومدائح القوم في السودان هي نموذج لتحميل اللغة للفكرة، بانتقاء العبارة السلسة والإيقاع الوقور الذي يتواءم مع قداسة المضمون.. وقد تقبلت المدائح في طرح الفكرة، باستخدام ما تيسر من آلات، كالطبل والدف والطار واتخذت من كل ذلك أبحر عروضية، إلى جانب استخدام المادحين للتنغيم الذي يشبه الحِداء.. وقد احتفى المادحون على نحو خاص بالطبل والطار، لأن دفيفها ينز بمعاني المهابة والحماسة والفروسية، وترمي بإشارات هي الأقرب إلى قيم الدين وطقوس البداوة.. وتسامى المادحون عن المعازف، وتمنّعوا عن الألحان والإيقاعات التي توحي بالتهتُّك والوقوع في مستنقع اللذة الحسية، حتى تخرج المدائح كأقوى تعبير عن الوجد والشوق إلى مقامات العرفان والترقي الروحي. كان عصر الفونج من أكثر عصور الثقافة السودانية احتشاداً بالمادحين، لكن إنتاجهم نُسيَّ لأنه لم يُدون.. وأقدم نماذج ذلك الشعر نجدها متناثرة في الطبقات.. والقول بأن «الشاعر النقر هو أقدم مادح.. وأن قصيدة السلامة هي أول قصيدة مادحة»، هو قول غير صحيح من وجهة النظر التاريخية، فهناك شعراء لم يرد ذكرهم في الطبقات، منهم الشيخ محمد حاج العاقب الملقب بالبرعي الصغير (1704-1779م)، والمادح محمد قدورة (1711-1774م)، و المادح علي ود حليب (1719-1774م).. أنظر: عمر الحسين، ديوان الماحي، ص12. نقول إن ذلك القول غير صحيح من وجهة النظر التاريخية، لأن هذا القول يلغي الاعتراف باستفادة الشاعر من العوالم الشعرية لسابقيه، فالشاعر النقر كان مسبوقاً بشعراء كثر عاصروا ود ضيف الله الذي دون نصوصاً شعرية لقدامى تواترت عنهم الروايات الشفاهية، وقد عاش الشاعر النقر في العصر التركي، وهو قطعاً لم يكن باريء قوس المديح، إذ من المستحيل تحديد مُبتدأ قول الشعر داخل المجتمع، فالشِّعر يجري في الناس مَجرى الدّم وإن لم يجيدوا فنونه.. والمادح في ذلك العهد السنّاري، هو ممثل تيار التصوف في صراعه مع الفقه، ولذلك نجده يتعرض فى خندقه ذاك للتحرش والمضايقات، ما استدعى أن يستصدر الشيخ عبد الرازق أبو قرون فتوى إجازة المديح، جاء نصها في الطبقات هكذا: «مثلما تمدح الله ورسوله يجوز لك أن تمدح شيخك».. ثم ذُيِّلت تلك الفتوى برجز من طالبها، يدل على أن التحرُّش بالمادحين كان جزءاً من أدبيات الصراع بين الصوفية والفقهاء.. قال شاعرهم: «القطب إن نهمته في الضيق سمَّاع/ مدحه جاز ليّ، كِتاب سُنة وإجماع».. الشاهد هنا، هو تخندق كل من الصوفية والفقهاء من قديم، تعصباً مع، أو ضد «التوسل».. وحتى في عصرنا هذا، ما يزال التوسل بالأولياء قضية تكفيرية بين التيارين.. وهذا ما سنتحدّث عنه لاحقاً.