ذكرنا في حلقة سابقة بعض القصص والحكايات كانت تروى حول المعابد التاريخية التي كانت موجودة حول قرانا، هذه الحكايات اتفقت جميعها على شيء واحد، هو أن هذه الخرابات وراءها كنوز.. توالت الروايات عن القيمة التاريخية لهذه الأطلال، ولم نكن نفهم كل ما يقال سوى إن هذه الأطلال بقايا كنائس وأديرة قبطية. وذكرنا أقباطاً كانوا معروفين تماماً في وادي حلفا، أمثال: جوزيف- يغمور- قيشر.. ثم وقفنا مع أقباط القضارف وكريمة وشرحنا هناك معنى مصطلح (خواجة) وموقف المسلم السوداني منهم. . وهنا نواصل مع أقباط دنقلا والمدن الأخرى. *** مؤلف كتاب (القولد) الأستاذ مكاوي عثمان أحمد؛ يضع الأقباط في النسيج القبلي في دنقلا بوضوح تام، يقدمهم موزعين على ثلاث قبائل منسوبة إلى المؤسس الأول: أسرة أبادير جرجس، وأسرة منقريوس وأسرة إسطفانوس، هذه المجموعة القبلية استوعبتهم البيئة النوبية الدنقلاوية تحت مسمى (نصرانجي)أي قبيلة النصارى. يقول المؤلف عن (شجرة الأقباط في القولد): «هي مجموعات تتكون من ثلاث أسر جاءت من صعيد مصر إلى هذه المنطقة واستقرت بها». أولاً: أسرة أبادير جرجس التي استطونت في بداية عهدها في مدينة الخندق ثم استقرت في مدينة القولد بحري، وكانت تتكون من فهيم ونون وفؤاد أبادير واستقر متى أبادير في رومي ورمسيس أبادير في أوربي وأنيس أبادير في الغابة، وعطا الله أبادير وبهية وأديبة واستقروا في الدبة. ثانياً: استقرمنقريوس عبد الشهيد بالقولد قبلي، حيث أنجب دمتري ويوسف اللذان سكنا القولد قبلي ولول التي سكنت القولد بحري ثم استقر شاكر وأرياض وفينارا في ناوا واستقر توفيق بالشايقية. ثالثاً: استقر إسطفانوس بطرس بأمنتقو ومعه نعمات وعطيات، أما إبراهيم استقر في الدبة ثم اسحاق الذي بقي في دنقلا. وكانت لهم أدوار فعالة في كل المجالات ومن المعلوم أن بعضاً من هؤلاء الأقباط عملوا كمعلمين بمدارس القولد أمثال الأستاذ وليم يوسف منقريوس والأستاذة سامية بشاي توفيق وغيرهم). يقول إنهم جاءوا القولد كتجار ومحاسبين؛ أما الذي يميزهم أنهم يتحركون في المدن السودانية المختلفة كوحدة واحدة.. وبالفعل استطاعوا بناء علاقات مميزة مع المسلمين ويقدم سكان (المسالمة) في أم درمان كنموذج . *** استطاعوا أن يديروا أول الأمر تجارة مقايضة ناجحة عن طريق المراكب النيلية.. استبدلوا البضائع المستوردة بالمحاصيل المحلية: (اشتهر هؤلاء الأقباط بأمانتهم وصدقهم). أوزانهم كانت بالوقة والرطل والأوقية، والقياس بالياردة والذراع، أما الكيل كان بالكيلة والقيراط والطاسة! أما عن مساهماتهم في تطوير حياة الناس في جنوبي دنقلا فيلخصها في: - أدخلوا حرفة حياكة الملابس بمكانات السنجر. - طوروا طحن الغلال من الحجارة إلى طواحين ممكننة. - شيدوا الورش الحديدية لصناعة الأبواب والشبابيك. - أدخلوا الكهرباء بمكنات الإنارة. وجلبوا الراديوهات الضخمة التي كان يتجمع حولها المواطنون لسماع الأخبار والوفيات!! - ربطوا المدن بالمواصلات كالبصات واللواري السفرية. - حفروا الآبار ووفروا مياه الشرب في محليات دنقلا. - ساهموا في كل اللجان الخدمية والجمعيات بالرأي والمال. طبقاً لإفادات هذا الكتاب: أن دورهم لم يقتصر على العمل التجاري والعلاقات الجماعية بل أنهم كان لهم دور في مستوى العلاقات الاجتماعية الفردية (أول المعزين وأوائل المشاركين في الأفراح)؛ لهذا شاركهم الناس أفراحهم وأتراحهم! في مستوى التدين الشخصي كان لهم طقوسهم الدينية ولهم مقابر خاصة كانوا يدفنون فيها موتاهم، كان الكاهن يحضر إليهم من وادي حلفا وبعد التهجير ارتبطوا بمطرانية أم درمان. يعدد المؤلف أسباب هجرتهم من السودان، ومنها قرارات التأميم في العهد المايوي وقوانين (الشريعة) الإسلامية في عام 1983م، وإعدام أحد الأقباط بسبب الاتجار بالدولار عقب انقلاب (الإنقاذ)! يرسم نهاية مأساوية وهي أن طلبة القولد والثانوية العليا قاموا بإحراق بار ( دكان خمور) للقبطي نون أبادير وهو أحد أقباط سوق القولد!! *** وهكذا نستطيع أن نعدد مساهماتهم في كل مدن السودان: في عطبرة , بورتسودان، وشندي، وكسلا، وكوستي، ومدني.. ورغم قلة عددهم استطاعوا أن يستأثروا بالوظائف والأسواق؛ وفي هذا المجال يذكرون كلاما للرئيس نميري وهو يشير لأحد الأقباط كان يعمل وكيلاً للمالية (أنه سوف يملأ الوزارة بالأقباط )!! لهذا من العسير إحصاء الوظائف العليا التي تقلدوها، ولكن الذي ميزهم عن غيرهم هو خدماتهم النوعية التي مازالت تحكى في مختلف المدن السودانية.. مثل ما يحكى عن جبرة بطرس الذي كان يعمل مفتشاً للأراضي في مدينة الأبيض: يحكون عنه إنه رفض لأحد أعيان بابنوسة أن يشترك في مزاد الأراضي لأنه لم يكن يحمل بطاقة هوية (جنسية)؛ بقي أن نعرف أن هذا الزعيم هو من كان هذا المفتش ينزل في ضيافته ! وتميز هؤلاء أيضاً بالصبر الطويل الذي فتح لهم مساحة واسعة في وجدان الخدمة والمدن السودانية.