٭ اهداني الاستاذ غسان علي عثمان مدير عام ورئيس هيئة تحرير «هيئة الخرطوم للصحافة والنشر».. مشكوراً مأجوراً ان شاء الله.. رزمة من اصدارات الهيئة الجديدة، ثلاثة كتب هي «التاريخ السياسي لقبيلة الكنوز» للدكتور بركات موسى الحواتي و«الثقافة في السودان-المؤسسة-الكوادر-التخطيط» للدكتور عبد الحميد محمد احمد وعبد الله محمد عبد الرحمن، وكتابه شخصياً الموسوم «ديكور العويل في معنى السيرة»، بالاضافة الى ديواني شعر هما «دم العاصفة» لمحمد نجيب محمد علي و«المجهول والشتاء» لحديد الطيب السراج. ٭ حتى الان فرغت من قراءة كتاب الاستاذ غسان «ديكور العويل» اكثر من مرة خلال ثلاثة ايام، واتصلت به هاتفياً اعبر له عن امتناني على هذه اللفتة من جانبه، اذ رأيته يسير على نهج سلفه في المنصب صديقنا الطاهر حسن التوم.. وعبرت له خلال ذلك الاتصال بملاحظات سريعة حول كتابه.. ولا ارى بأساً ان عممتها في هذه الاضاءة مع بعض الاستزادة. ٭ اول تلك الملاحظات، وربما اهمها، ان الاخ غسان، هو مشروع كاتب مهم لانه قاريء نهم، تلحظ ذلك على الفور من خلال احالاته وهو يحرر كتابه «في معنى السيرة» الى اكثر من كاتب عربي واجنبي من ذوي الصيت والمرجعية من امثال محمد عابد الجابر وميشيل فوكو ودوريان غراي واوسكار وايلد وسير ارثر كونان دويل وغيرهم كثير.. ثم ان غسان يتمتع بذائقة لغوية ترفع كتابته النثرية احياناً لملامسة حواف المفردة الشعرية، وتلك ميزة مهمة لمن لا يزال يعيش ربيع العمر وسنوات الشباب، اذ تمثل وعداً بكاتب كبير منتظر. ٭ وفي موضوع اللغة -لغة الكتابة- ما اخذته على الاخ غسان هو اغراقه في غريب اللغة، الذي لم يكن يناسب موضوع كتاب في السير الذاتية لمن تناولهم، خصوصاً الساسة بينهم، وان ناسب الشعراء والادباء من امثال الطيب صالح وصلاح احمد ابراهيم، وكما ابلغته في تلك المهاتفة السريعة فان اللغة الصعبة لدرجة المعاظلة، ليس بالضرورة ان تكون حاملة لفكرة عميقة او منطقية ومقبولة، واننا تعلمنا من الكتاب الكبار امثال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وحتى الطيب صالح نفسه ان «السهل الممتنع» من اللغة هو الانسب للتوصيل الجزل للفكرة في عمقها وهو ما يُحدث الدهشة والمتعة للقاريء، لان الكلمات على بساطتها تأتيه محملة بالمعاني البعيدة والرؤى الجديدة، فتكتسي الكلمات ايحآتٍ غير مطروقة او مظنونة. ٭ الملاحظة الثانية والمهمة، ان الكاتب، برغم استمساكه الظاهر والمعلن بالحيدة والموضوعية في نقد جيل ما قبل وبعد الاستقلال ومنهم اسماعيل الازهري ومحمود محمد طه والشريف حسين الهندي ومحمد احمد محجوب وعبد الخالق محجوب.. كل من محضنه الفكري ومواقفه السياسية ودوره الذي يراه الكاتب على الأغلب سالباً في مستقبل الوطن.. حتى صرنا الى ما صرنا اليه، الا ان انحياز الكاتب السياسي لا يخفى على القاريء المتأمل والمتبصر.. خصوصاً والكاتب آثر -كما اشار د. الحواتي في تقديمه للكتاب- الابتعاد عن سيرة الترابي والصادق المهدي كسياسيَيْن مُهميْن عاصرا وجايلا وربما صارعا من اتخذهم الكاتب هدفاً وموضوعاً «لمناوشاته النقدية»، لأولئك الفرسان الذين واجه بعضهم مصيره بكل بسالة وشرف وصعد على خشبة المشنقة مبتسماً او يمازح جلاديه.. ومهما يكن من امر فاولئك الرجال كانوا ابناء عصرهم وبيئتهم، اختلفنا معهم او اتفقنا. ٭ استوقفتني عبارات غسان التبريرية، وهو يبدو مستريباً في ما ذهب اليه في حق هؤلاء الفرسان، عبارات اقتطفها وذيل بها غلاف الكتاب الخلفي اذ قال: «اننا هنا لا نُصدّر سيرة ذاتية لمن (ناوشناهم) بالتحليل، هم فقط نماذج لمشاريع خارطوها بالحضور والمساهمة الواعية وخلافه. ما نكتبه هنا ليس تاريخاً بالمعنى القانوني للتاريخ.. الخ».. ونقول للاخ غسان ان «المناوشة» وظلال الكلمة واشتقاقاتها توحي بروح الخصومة والعداوة والقتال، وليس «التحليل» الموضوعي الرصين.. كما انها المرة الأولى التي نسمع فيها عن «معني قانوني للتاريخ»! ٭ لا يتسع المقام للمزيد.. ولكن في كل الاحوال لغسان عظيم الامتنان على هذه اللفتة الكريمة منه ومن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، ويظل الرجل مشروع كاتب كبير كما توقع الحواتي، اذا ما نزع عصابة الآيدولوجيا عن عينيه وحدق ملياً في الآفاق.