في أغنية (يقظة شعب) تلك الأنشودة التي اشتعلت في حنجرة الفنان وردي الذهبية، وضع الشاعر النوبي مرسي صالح سراج تفاصيل واضحة لهوية سودانية ممكنة! تتخلص في : حين حط المجد في الأرض دروبه عزم ترهاقا وإيمان العروبة *** عرباً نحن حملناها ونوبة *** ربما لو لم يتقمص هذا الشاعر روح النيل بالطريقة النوبية، لما استطاع أن يقدم تجربة ناجحة في استثارة الوجدان الوطني السوداني رغم كل شيء! حمل الشاعر مرسي صالح في خلفياته النفسية حالة نوبية خاصة من ذوبان (الثقافة والإنسان والبيئة النيلية) هذه الحالة قد تريك جمالاً لا يراه غيرك، وقديما رأى المسيح جمالاً في أسنان كلب ميت !! *** هام ذاك النهر يستلهم حسناً فإذا عبر بلادي ما تمنى طرب النيل لديها فتسنى *** المنحنيات الحادة للنيل نتيجة للصخور الصلدة وقسوة الصحراء حول الضفاف، في مجرى نيلي ضيق يخترق جحيم صحراوي تعتبر من اسخن مناطق العام قاطبة.. في كل هذا رأى الشاعر جمالاً تغنى به !! الجفاف والجدب جعلتا لقطرة الماء جمالاً ومن النيل أسطورة ؛ لهذا قدم الشاعر النيل كطاقة جبارة ونجح في وضعه كخلفية مقنعة لتحريض طاقة الشباب بل وجعل من النيل رمزاً لكل القيم ! *** وأنظر كيف جعل من تيار الماء كجريان الزمان: فاروي يا تاريخ للأيام إنا *** وأنظر كيف جرت القيم مع الزمن كجريان النيل والدماء في الشرايين : في دمانا من خلود الغابرين خلق يسمو وعزم لا يلين مصدر الجمال هنا هما : الحضارة والتاريخ الموجودتين رغم قسوة الحياة.. العزم الذي لايلين واضح في اندفاع الثورة وجريان النيل، ولكن ماهو دليل السمو الخلقي ؟!! نحن في الشدة بأس يتجلى وعلى الود نضم الشمل أهلا ليس في شرعتنا عبد ومولى! *** أما في عمر النيل فقد وجد تواصلا بين الماضي والحاضر أو النوبة والعروبة: حين حط المجد في الأرض دروبه عزم ترهاقا وإيمان العروبة وهنا قد بلغ بناء الهوية نهايته: عرباً نحن حملناها ونوبة وعند اكتمال صورة الوطن يصبح النيل رمزاً للثورة: ثائر إذ هب من غفوته ينشد العلياء في ثورته ما اندفاع السيل في قوته ثم بعد ذلك تنتقل عدوى الثورة إلى شعب بأكمله: من له جند على النصر يعين كلنا نفساً مالاً وبنين *** هكذا ساعدته الخصوصية المحلية كثيراً ليضع نصب عينيه رسم هوية محددة للكيان السوداني قبل كل شيء.. وهي أيضاً سبب الرضا والتفاؤل في نهاية المطاف!!. وغداً سوف يعلو ذكرنا في العالمين وعلواً كان شأن العاملين!!. *** في خلاصة هذه التجربة الغنائية: هل كان الشاعر يحلم بالقوة، أم كان يحلم بمستقبل بعيد؟! كل شيء ممكن ولكن المؤكد شيئان: استطاع أن ينسج جماله الخاص رغم كآبة واقعه وقسوة حياة شعبه، وما كان ذلك ممكناً لولا خلفياته التراثية التي استلهمها . خلفياته النوبية كانت سبباً لتتسع رومانسيته لتشمل دولة كاملة وأمة سودانية جامعة ! وثانياً: بلغ المعنى منتهاه حينما تمددت الكلمات في حنجرة المطرب وردي الذي ينتمي بدوره لهذا النموذج الثوري ! *** والأعجب من كل هذا على غير العادة أنه جعل جمال النيل من جمال السودان ولم يجعل جمال السودان بوجود النيل.. ليت شعري على أي عالم كان يتفرج عندما تفوه بهذه الأبيات !!