( الحزن يُقلق والتجمّل يردع والدمع بينهما عصّي طيّعُ) ٭ فالتندلق المحابر بفوضى و لتُصمّ الآذان بحوافر القلم ونبيل المعاني ولتتزاحم الأشعار والأفكار والمرويات عن عروجك سيدي، لتعرف الدنيا والعالمين والناس ببلادي من هو الصالح (صلاح الدين) المختبئ عن كل ظهور يُفسد النية والعمل، الظاهر كغرة صلاة على جبين الأتقياء عند النوائب وعظائم الأمور، كنت روحاً وحشداً من المروءات والكرامات والعفاف مما يعز توافرها وتداركها ويندر حملها بين جنبات رُوح واحدة. ٭ أمسكت بالقلم كثيراً ولكن صدقاً جفلت العبارة وأنسرب المداد بين أصابعي ما بين رهبة وربكة وقلق مضنٍ وكثافة حزن تتخلل المسام فالجرح (نَي) والبؤس بوحشة الرحيل يسد الأفق . ٭ وليس أجمل مرثية، ولا أعظم بكائية من بعض كلمات مضيئآت وضيئآت حافرة عند كل فقد وفراق مما نثرته ببلاغة ووسامة سيدة نساء أهل الجنة فاطمة الزهراء وهي تودع سيد البشرية أبيها وحبيبها وحبيبنا (صلى الله عليه وسلم).. عندما توقف الزمان لهول الخطب وفداحة الأمر وعظيم البلاء، فقالت مخاطبة سيدنا بلال رضوان الله عليه: (يااااا بلال كيف طوّعت لكم أنفسكم أن تهيلوا التراب علي وجه رسول الله) صلى الله عليه وسلم . ٭ أذاقتنا الأقدار وطوارق الفواجع بالعشي والأبكار المرّ برحيلك المفجع، وحين تكون حُكماً وأمراً لا راد له الاّ هُو نتجمل بالصبر ونتدثّر بالدعاء الملحف يقيناً ورضاً بما نزل من أمر المولى صاحب الحول و الطول . ٭ رحل الرجل الصالح (صلاح الدين) واسطة العقد وفلق الصبح لشباب الإسلامين وكل وطني ، رحل (الأخ المسلم) الملتزم سلوكاً ومنهجاً، تاركاً إرثاً من الحكمة والسماحة وحب الناس كل الناس وفصولاً تتَسع من التصالح والتبسّط والتمسّك بدينه وقيمه في زمان خفتت فيه القيم وصارت أشبه بالخل الوفي والعنقاء . ٭ ولأن تأخر لحاقك بالأنقياء أولي الطهر والعزائم ممن قاسمتهم السهر والرباط والجهاد شهداءنا الميامين فذاك لتكون مُعَلّماً و مِعْلما بليغاً لمن أخذت بيدهم بترفق ونبل وعزم وحسم، فيحفظ لك كل من عمل معك أو صاحبك أو رافقاك ولو لليلة واحدة عظة و عبرة وأقصوصة وطرفة بجمال وجلال . ٭ حدثت مني ذات مرة مخالفة (باجتهاد) لأمر تنظيمي لا ترقى لمستوى المساءلة في (ظني) ولكن صلاح لمن يعرفه شديد الالتزام صارم الإنضباط باللوائح . ٭ وكنّا نُعد بجامعة الخرطوم من المتمردين علي التراتيبَية فيما نظنه الصواب، وكان حينها مسئول التعليم العالي، فأرسل في طلبي في ليل متأخر مسئول الجامعات (صديقي الهادي محمد علي ليصحبني إلي الدار) الوجبة ) وكان الهادي عريساً في بواكير أيامه.. ولما وصلته الواحدة صباحاً قدر أن الأمر عادياً، ولكن لأني أقلقت منامه وحركت كل أركان حربه بإتصال من مسئوله المباشر (شيخ صلاح) قرر لي عقوبة رادعة وهي أن (أحلق صلعة) فهمت من العقوبة لكوني المتحدث باسم الحركة الإسلامية بالجامعة.. وكنت علي موعد لركن نقاش نتيجة أحداث بالجامعة ورفض كل حججي وبراهيني وطلب مني أن أبيت بالمسجد وأنتظر (ونسي) الذي رفع إليه الأمر، فاجأني الرجل الصالح وهو يوقظني لصلاة الصبح وأنا نائم بالمسجد، وطلب مني أن أأمهم في الصلاة، ثم أخذني إلي مكتبه حيث الرهبّة والسلوى والسلام، وسألني عن الوضع السياسي بالجامعة وموقفنا وترتيباتنا، وطلب مني الإنصراف دون خوضٍ في ملابسات الاستدعاء ، وأنا أهم بالمغادرة دون أن أفتح معه أمر العقوبة باغتني مازحاً لقد عفونا عنك بعقوبة (الصلعة) عشان ركن اليوم، حتى لا تفهم العضوية أن أمينهم السياسي معاقب .. لك الله يا ونسي، ثم أردف بشرط أن تؤمنا بالمسجد لسبعة أيام.. وأنا بالباب ناداني: (حتى دي عفيناك منها حتى لا تنقل التمرد إلى داخل مكاتبنا) وهو يضحك، صلاح مدرسة في التربية والإدارة من طراز فريد، ترمي ثيابك عند بلاطها بإهمال لترتوي وتتبلل بأشراف الأمور وسمح السجايا . ٭ صلاح الدين لم يكن معصوماً ولا رجلاً كاملاً، فالعصمة للأنبياء وحدهم، ولكن كان نزّاعاً بشمم نحو مدارج العُلا ومحاريب الدعاة المخلصين لفكرتهم المؤمنين بأن الخلاص في التسربل بقيم الدين، صلاح لم يَكُ وقّافاً عند الصغائر وليس بممسكٍ بدواخله بِدَخَنٍ ولا خلاف عارض . ٭ كان صلاح موغلاً بشغفٍ بائن في ضرب المثال والقدوة للذين تحت حوزته من تكليف، رجاعاً للحق متى إطمأن إليه دون لجج ودون النظر إلى مترتباته وإن كان قراراً يصعب الرجوع عنه . ٭ كان صلاح (وَكْرَة ومِفْتاح) لحجرات النزاهة والأمانة فلم تتسخ يداه بمال عام وهو القائم على أموالٍ، الأمين على خزائنٍ تبللت بعض الأكف عند ملامستها، وتعرقت الأوجه وانتفخت الجيوب، وهذه من صفاته المميزة تضاف إلى رصيدٍ عامر بباهي صفاته وعالي قدراته؛ ما جعل الأخ الرئيس يستخلصه لنفسه وزيراً أول.. متجاوزاً به صفوف كثيرة من أهل الثقة والسبق في الحزب والتنظيم، وحين عزمت القيادة على تقديم الشباب وإعدادهم وصقلهم لقيادة الشأن العام تذكر الأخ الرئيس أصحاب الوضاءة ممن عرفوا الطريق فلزموه، فحنّ إلى روح الداعية الشهيد عبيد ختم والزاهد العالم الشهيد محمود شريف وأنيق العبارة وأمير الدبابين الشهيد علي عبد الفتاح ورفيق دربه باذخ الرجولة والعزم واليقين الشهيد إبراهيم شمس الدين، ثم التفت فلم ير إلاّ الصالح صلاح الدين ونسي تفيض روحه بصادق المعاني حتى تكاد تسقط جسده المجبول على تحمل وتجشم المخاطر والصعاب، بل تكاد تهلكه . ٭ سيدي.. قد كنت أشفق من دمعي على بصري فاليوم كل عزيز بعدكم هانا ٭ نعم سيدي.. الموت آت و النفوس نفائسٌ والمستعز بما لديه الأحمقُ ٭ ولكن عزاءنا أن ألسنة الخلق أقلام الحق.. وهذه الأمة الشاهدة لم تشهد لك إلاّ بكل خير هو كثير سلوى، وإن غمت الأيام وسكنت الوحشة منّا المسام سنروي (لأسعد وأحمد) سيرتك المرفودة خُلقاً وعطاءاً وبذلاً وتضحيات عراض ضمن فصول النورانيين