كل عام وأنتم بخير.. ملتقيات ناقدة غيورة ومناسبات بهيجة وسباق محموم يلازم ختام العام يأخذ شكل الظاهرة ويحتمل عدة تفسيرات، بعضها سايكولوجي لا داعي للخوض فيه، وبعضها يستبطن ما هو جدير بالتأمل، فالمناخ مشبع باحتمالات شتى يغذيها حوار مفتوح وتكهنات تضرب العالم بسيل من الإرهاصات تتربص وراء كل السيناريوهات، اللهم اجعله خيراً. إني قد وقعت تحت تأثير واحدة من «القروبات» النشطة اختارت أن يكون موضوعها التغيير بمدخل صريح ذكرنا بحكاية «لا بديل للسكة حديد إلا السكة حديد»، فأحدهم يقول باديء ذي بدء «لا بديل للتغيير إلا التغيير».. واتضح أثناء الحوار أنه متخصص في «إدارة التغيير»، فالموضوع يدرس الآن في الجامعات، ذلك شيء مطمئن حتى لا يفاجئنا قرار التغيير متى صدر.. ولكن هل نحن نستفيد من الدراسات «المداوية»؟ المنتدى إذاً في مقام ما «وقع في جرح» فالوقت مناسب، كذلك العنوان «التغيرات العالمية وأثرها على السودان اجتماعياً»، والبداية لمعالجات الإمام ابن حنبل ومأثورات المؤرخ ابن خلدون في مواجهة التحولات بشروط التسامح والتعايش.. انطلق الحوار من فكرة الخلق الأولى وابتعاث الرسل والأنبياء وتوحيد الخالق.. الورقة الأساسية قدمها متخصص بارع في الدراما وصاحب رؤية وناشط في مجال الثقافة ومتحرر في طرحه، هو الأستاذ السر السيد.. ابتدر النقاش كوكبة من الناشطين في مجالات المجتمع والثقافة والفنون والاقتصاد والإدارة.. خمسون أو يزيدون ضاقت بهم قاعة فسيحة مجهزة إلكترونياً بمعهد علوم الزكاة.. كان شيئاً ممتعاً أن أصادف حواراً بهذه الروح.. إنهم متطوعون يتحدثون عن التحولات الكبيرة حولنا وأثرها على بلادنا، مؤكدين على أن رياحها لا تهب من فراغ ليقولوا ببساطة إن آليات التغيير الآمن قريبة جداً، الأسرة، التعليم، الإعلام، القيم، التكيف، الاستعداد النفسي، إدراك مفهوم التغيير وأن نملك قرارنا وأن نستفيد من التكنولوجيا.. التغيير يبدأ من هنا، من حسن الاقتداء «أعقلها وتوكل على الله»- هذا من السنة، ثم إن الأمر مشيئة إلهية: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»- سورة الرعد. الأنفاس تشابت لطور اليقين، فإن نبقي على الأبواب مفتوحة ونستعد، أمر لا يحتاج لنقاش.. انداحت حجج جديدة «مشهية» بلغة بكرة وبنبرة غير مستهلكة.. تداعت المعالجات بأننا نحتاج الآن للتعايش مع مفاهيم جديدة منها «ثقافة التغيير» كيلا يفوت علينا أن نواكب العصر ما دامت ظروفه مواتية لنتجه نحو ما هو أفضل، فالناس بطبعهم لا يحتملون الأوضاع التي تبقى على حالها لفترة طويلة، بينما إيقاع الحياة يتسارع حولنا بلا هوادة كما هو ملاحظ، والبعض يرى أن ذلك يبرر التساؤلات عن القادم.. الإحلال حتمي لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بتعاقب الأجيال. تماماً مثلما يطالعنا الخبراء بالقول الفصل تتعالى أصوات تنادي بالاستفادة من تكنولوجيا العصر لنشر قيمنا وللاستعانة بها في إحداث تغيير إيجابي.. ويتساءلون: هل بمقدورنا أن نفعل؟.. الإجابة محرضة.. فدون ذلك عندهم أن البقاء على حالنا هو تغيير سلبي ثماره الفساد.. علاج الفساد والسلبية مقدور عليه بالتعليم أولاً، على أن لا يتعارض مع قيمنا، لذلك نحتاج لسياسات تعليمية غير مضطربة.. الزي المدرسي قد يكشفنا. ثانياً: الإعلام وهو سنام التغيير فقط مطلوب تعزيزه.. ثالثاً: التكنولوجيا المتسارعة والدنيا لا تنتظر أحداً، أنت في عالم مكشوف، نحن دولة مفتوحة على ثقافات مختلفة «غير السودانيين كم عددهم اليوم في الخرطوم، كمثال؟». هذا السؤال استدعى وصايا ابن خلدون في صون المجتمعات «السلوك يقوده الأقوياء»، كما استدعى لغة القوة في عالم اليوم «التخطيط الإستراتيجي» عماد التغيير المسنود بالقيم.. أمامنا تجربة دول ناهضة من آسيا وأفريقيا كانت تنظر للمستقبل من منظور القيم.. ونجحت.. تحررت اقتصادياً وبدأت تنطلق، تخيف دولاً كانت باطشة اقتصادياً.. فمتى ننطلق نحن؟.. ماذا نحتاج؟.. من نحتاج؟ فاجأنا أحدهم بقوله: إننا نحتاج إلى «أبي حنيفة» جديد ما دمنا في عالم موعود بتحولات كبيرة.. تعجبت لذلك.. عقب الجلسة سألت منظم المنتدى الأستاذ عمر عبدالقادر عن دوافع استدعاء الإمام أبي حنيفة في هذا المقام - هل الأمر بلغ هذه الدرجة واحتاج لهذا الطراز من البشر؟ اكتسى عمر بهيئة المجتهدين فهو أصلاً باحث في التراث والفقه، فتاويه في «طرف لسانه».. قال إن الإمام أبوحنيفة يطيب ذكره في هذا المقام لأنه صاحب مدرسة في الاجتهاد وإبداء الرأي، عاصر تحولات كبرى وشهد فتوحات أعظم شأناً أذنت بدخول الناس جماعات في الإسلام من حضارات مختلفة، فبادر يوطد لذلك.. حري بنا استحضار روحه لمعالجة التحولات المنتظرة في الحياة على أساس من التسامح والتعايش.. الأمر فعلاً يستدعي أن نتذكره، والمقصود نهجه في الشورى واستيعاب التلاقح بين الناس وتحفيز رغبتهم في التغيير إلى ما هو أحسن.. وزاد: أبو حنيفة عليه رضوان الله له تلاميذ أسسوا لنظم العدالة وللعلاقات بين الدول، عنه قال الإمام الشافعي «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة»، وقال عنه مفكر بريطاني «أخطر عقل شهده العالم في أي زمان أي مكان»، فكيف لا نلتمس رؤاه؟.. أمر مفرح أن تكون الذهنية السودانية بهذا الحضور، إن«التمثل» منهج عند العرب. يبدو أن الحوار قد تحلى بلبوس «التمثل» ومسك الختام فاتخذ شكل الوصايا الجامعة والنداءات المستغيثة.. أبناؤنا في الخارج.. الاعلام.. القدوة.. القيادة.. الإرادة.. التفاهم.. ومواردنا التي لم تتكشف بعد.. الصراع يشتد عالمياً حول الموارد فلنجعل الاقتصاد أولاً ونطور ثقافتنا في ضوء قيمنا، التطور إنما يكون بالتغيير الراشد وفي حمى القيم.