أجمع الصحفيون الذين تحدثوا يوم رفع فراشه، وقد استأثروا يومها بالحديث لكونه أحد أفراد قبيلتهم .. أجمعوا وهم يعددون مناقبه وسجاياه أن الكل يعتقد أنه الأقرب إليه، وهذه لعمري خصلة نادرة من الناس، فقد كان- وإني بذلك عليم - حميماً وفياً لكل من عرف في هذه الدنيا الفانية «الفناية»، وما أكثر معارف عمر وما أكثر وداده وإخائه ونبله واحتفائه بأصدقائه من كل مشرب وطيف.. ووصف الدنيا بالفناية وليس فقط بالفانية قال به شاعر البطانة الكبير الأمين ود طاهر: «أنا آسف على الفناية كم دمرت تلوب بالسافي والسفاية يا الشايل السلام قول لي بنات التاية أصلو الدنيا ضحاكة وعقب بكاية» من كان يعلم غير علام الغيوب أن عمر سيرحل عنا هكذا على عجل، فبين خروجه بالعلة من منزله في الواحدة ظهراً إلى أن ووري الثرى ما انقضت أكثر من سويعات ... أجمع زملاء مهنته أن الكل كان يعتقد أنه الأقرب إليه وقد توهمت أنني إليه الأقرب بعد سبدرات حتى راعني عدد الباكين يوم واريناه الثرى. عرفت عمر قبل قرابة أربعين عاماً حين انضم إلينا يافعاً في إدارة مكتب المحافظ مهدي مصطفى الهادي ذلك الهمام الذي نقلنا مدرسته الإدارية في مقبل أيامنا حين تقلدنا منصب المحافظ واقتدينا بنهجه ذاك الفريد.. كنت يومها مديراً لمكتبه وجاء لنا بعمر وزميل اسمه بابكر للعمل في مراسم المحافظ .. لا أدري من أين أتى إلينا ولم أسأله هذا السؤال طوال أربعين سنة خلت.. غير أني أدركت وقتها من واقع تمدده الذكي واندياحه المتقن الهادئ في المساحات التي تليه والتي لا تليه، أن ذاك الشاب اليافع كان يبحث عن فرصة مثل تلك ينفذ عبرها إلى فرص أوفر، فمناخ القرب من كبار رجال الدولة هو مناخ الراحل عمر الذي لا يشق له فيه غبار.. هذا الذي أقول للذي يعرف عمر يلخص موهبته الفذة ويلخص شمعة عمره التي انطفأت.. تنامى وتفرع عمر في كل مساحات إدارة مكتب المحافظ وزحف إلى مساحات الاتحاد الاشتراكي ثم إلى القصر ولم يكن يقف عند رفقة المحافظ بل يتعداها فيربط الوشائج مع الذين كانوا داخل الحكم من الذين يترددون علينا في مكتب المحافظ بالمديرية أو في مكتبه بالاتحاد الاشتراكي، وقد كنا ندير المكتبين وأعجب أن عمر لم يكن يهدف من ذلك إلى غنيمة أو سلطة أو مطمع أو مال.. بل كانت هواية أو لعبة تسعده فحسب، فقد كان والحق يقال أبعد الناس عن المطالب الذاتية وأكثرهم عفة ونقاء وحياء. خصني الوزير العظيم الدكتور جعفر محمد علي بخيت ببعثة دراسية ببريطانيا فاستأذنت المحافظ أن يأذن لي بمغادرة مكتبه فتردد قليلاً ثم أذن لي فيممت شطر لندن، وكنت قد أمضيت مديراً لمكتبه ثلاثة أعوام تعلمت فيها منه الكثير فهو من جيل العمالقة في فن الإدارة .. تركت عمر وزملاء مكتب المحافظ وأمضيت في المملكة المتحدة سنين عددا... مرت خلالها مياه هادرة تحت جسور السودان مضت عهود وحلت عهود وكنت أعود للسودان لفترات قصيرة وأغفل راجعاً إلى بريطانيا وما انقطع تواصلي مع الراحل عمر... وكنت أجده قد تصالح مع القادمين الجدد وانداح فيهم وتمدد مثل دأبه مع القدامى مع الحفاظ بعلاقات أمتن وأقوى مع القدامى مما يؤكد نبله ووفاءه وخلو وداده مع الناس من الغرض.. تصافى عمر مع كل عهود حكم السودان وتصافت معه.. فقد كان وسطياً في نظرته للسياسة ووطنياً ينظر للذي يحكم البلاد بعين الرضا ويحمد لكل حاكم اجتهاده في إصلاح حال البلاد والعباد لايعرف الغلواء في حياته ولا التشدد ولا يأخذ الناس بالمقالب والإخفاق.. هكذا كان وهكذا عرفناه ولو وجد غيره حظاً مثلما وجد في الوداد مع علية القوم وأهل السلطة لتطاول في البنيان غير أنه خرج من الدنيا إلى ربه خالي الوفاض لا يملك حتى المنزل الذي يظل أسرته: كنا نظن دياره مملوءةü ذهباً فمات وكل دار بلقع والمجد أخسر والمكارم صفقةü من أن يعيش لها الهمام الأروع أين الذي الهرمان من بنيانهü ما قومه ما يومه ما المصرع صدح هكذا الشاعر العظيم المتنبئ وهو يرثي فاتك أي شجاع.. وما كنت أحسب أنني سأرثي الكاهن وهو يشتعل بيننا حراكاً حتى اليوم الذي سبق يوم رحيله، ولكنها الأيام تقضي بما تقضي والناس جميعاً في غفلة إلا من رحم ربي والعمر «عاريِّة» -بتشديد الياء- وهو وصف قال به الشاعر السوداني الشعبي ود الشلهمة: َ«موتك درته فوق أضهى ومخمس دافر يابس فوق سروجن ماهو كاتلك كافر يا مقنع كواشف أمات وضين وافر وكت العمر عارية خلو يسافر» طوال العشرة أعوام الماضية ما مر أسبوع إلا وطرق باب داري الصديقان سبدرات وعمر للذهاب إلى عزاء أو فرح.. وكان عمر هو الذي يتصل بسبدرات لينقل إليه خبر الوفيات أو الأفراح، وبدا لي فقط بعد رحيله وحديث الناس يوم رفع فراشه أنه لم يكن يقف عندنا وحدنا، بل كان يتحرك مع العشرات على نحو ما يتحرك معنا.. كان يتصل بي بعض المرات ويحثني على الاتصال بسبدرات فأسأل:«إن شاء الله ما عندو عوجة» فيجيب «لا بس ليك أسبوع ما اتصلت بيهو»، فتأمل بالله عليك هذا النبل وهذا الحرص على تواصل الأجيال ببعضهم البعض.. وبصالون منزله صورة يتوسط فيها ضاحكا الرؤساء نميري وسوار الذهب، وأخبرني أنه ذهب بالمشير سوار الذهب للرئيس نميري في داره للتصافي بينهما والوداد قلت له يومها: «والله يا عمر أنت سرك باتع» وهي عبارة أطلقها الأستاذ حسين خوجلي في وصف عمر تشغل الناس شواغل حياتهم عن وصال أقرب الناس ولا تشغل عمر.. فهو على سبيل المثال لم ينقطع عن زيارة السيد مهدي مصطفى، وقد شغلتني ترهات حياتي ومنحنياتها ومتعرجاتها عن زيارته لسنوات وسنوات، وكنت ذات يوم مديراً لمكتبه وتبدل ببلادنا الحال الاجتماعي وعصفت بالناس الحياة وتباعدت بينهم الخطى، وقال شاعرنا الراحل أبوآمنة حامد يصف هذا«إن الوصال أصبح جغرافياً».. وماتبدل الكاهن وظل يمضي في حياته بطباع الستينيات والسبعينيات .. السياسيون وعلى رأسهم وزير الدفاع وسبدرات، والشخصيات الاجتماعية البارزة وعلى رأسهم جمال الوالي وأهل الصحافة الجاز وأبو العزائم ومروح وكمال بخيت وغيرهم، الإذاعيون عبد العظيم وغيره.. أهل الرياضة.. عبادي وشداد وغيرهم.. الإداريون عبد الله ووداد وغيرهم.. أهل الفن.. وهل يسمح حيز مقالي بذكر كل الذين أكملوا أيام فراش الكاهن، ثم رئيس الجمهورية ونائبه اللذان لم ينقطعا يوماً عن مأتم في صورة سودانية لا مثيل لها في كل الكون.. هكذا ودع الناس عمرالكاهن.. مئات ومئات عزَّ عليهم الفقد.. اللهم نسألك وقد مضى إليك عمر فقيراً إلا من حب الناس أن تتقبله قبولاً حسناً وتسكنه جناتك الوارفة وتجعل البركة في الذين تركهم من خلفه زغب الحواصل لا ماء ولا شجر وتشملهم برحمتك التي وسعت كل شيء.