جوال البلح الجّاو، سعره هذا العام لا يساوي تكلفة حصاده ..الجوال الفاضي بعشرين جنيهاً.. لقيطه بعشرين، وترحيله بعشرين أخرى.. يُضاف إلى ذلك تكاليف الإنتاج، من ضريبة ري، حيث يُسقى النخل أربع مرات في السنة على أقل تقدير، هذا عدا أعمال النظافة واللقاح، والجِباية الحكومية، من زكاة وخراج، ورسوم قبانة وغيرها..! الخلاصة أن جوال البلح سبع كيلات بالتمام والكمال يساوي ثمن قيراط بصل، أو يساوي بالكاد (طاسة فول)..! كان من يحصد مائة جوال بلح، يُعد من الأغنياء.. قبل هذا الخراب، كان يتم تبديل جوال التمر بجوال قمح، فبكم القمح الآن؟ زمن الزمن زين، كان جوال البلح الواحد يوفِّر احتياجات البيت من المواد التموينية، لشهر كامل، فكيف هي أسعار الضروريات في هذه الأيام؟.. الآن أصبح المُغترب يحوِّل لذويه حقّ الضريبة، وثمن الجوالات الفارغة كي يشجعهم على الحصاد! ما السبب في هذا؟.. يتجادل أهل الشمال، ويقولون إن السبب هو الظلم.. الظلم الذي يحيق بأصحاب الإرث، من القاعدين في العقاب!.. بعضهم يقول إن (المَحَقة) حطّت رحالها هناك، لإحجام البعض عن دفع الصدقات، لسكوتهم عن قول الحق، وإهمالهم لأرواحٍ بريئة! آخرون يُرجِعون كساد البلح إلى المحاكاة، إلى الحسد القروي، إلى أن الغالبية تتعمّد زراعة ذات الصنف البركاوي.. كل هذا معقول، لكن المشكلة أعقد بكثير من هذه الملامة.. جوال التمر البركاوي وقتَ حصاده، يباع بخمسمائة جنيه .. الكيلة من هذا الصنف التجاري (الفرّاشة)، بأربعين جنيهاً .. إذا اشترى التاجر الصغير، بهذا السعر فسيربح في الجوال خمسين جنيهاً.. لنفترض أنه اشترى ألف جوال، فما جدوى تخزينها إن كان سيضربها السوس، وإن كان ربحه الإجمالي منها، لا يساوي حق السكر والشاي!.. بعض اللقّاحين يهربون من حش التمر الجّاو، ومساعد اللقّاح لن يتسلق الشجرة إلا بحقه كاش.. يوميته بمائتي وخمسين جنيهاً، ولعامل اللقيط مائة جنيه. في سوق الدّبة ومناطق الشايقية، خُصِصت طواحين لهرس التمر، ليكون علفاً للبهائم، وفي الملجة تتكدّس الجوالات من كل صنف، فمن يشتري؟.. عندما تعرض البلح في السوق، فهذا يعني أنك ستدفع أرضية الإيجار.. هذا يعني الوقوع في أفخاخ السماسرة، الذين يعلمون أنك إن لم تتخلّص من بضاعتك البائرة، بأي سعر، فستتكلّف عناء ترحيلها ذهاباً وإياباً! غالبية أهل الشمال يزرعون البلح.. لا يوجد تنويع في المحاصيل، ولا توجد دورة زراعية.. المواريث أدت إلى تفتيت مِلكية الأراضي، فلم تعُد الزراعة مُجدية في المساحات الصغيرة.. الذين هاجروا اختطف أطيانهم أقرب الأقربين، وناس الكرامة والأُجراء، يفضِّلون (حقّهم) نقداً.. المشكلة أعقد بكثير، في مناطق السكوت والمحس.. هناك قضت الحرائق على الآلاف من أشجار النخيل والشتول.. حرائق رهيبة، دُوّنت كلّها ضد مجهول، فلم يعد للأبناء والأحفاد متسع غير النجوع إلى الغربة على نهجِ آبائهم وأجدادهم.. مئات الجوالات من عجو المحس التقيل، لم تعد تسِد الرمق..! ما السبب في كساد الزراعة، في الوقت الذي يستبشر فيه البعض بتمدُد الشركات الأجنبية على الأراضي الميري؟.. لِم فارقت العافية تلك الشواطئ الخصيبة في هذا الوقت الاستثماري، وما هو مصيرها مع لعاب رأس المال السائل؟! هذا الكساد هو نتيجة اقتصاد الدولة العشوائي غير المتوازن.. هذا الكساد سببه التهريج والدعاوى الزائفة التي أغلقت الأسواق والمعابر.. هذا الكساد سببه الطفيلية التي تستورد العجوة من خارج البلاد.. هذا الكساد سببه أننا لم نعد نوفِّر إمدادات المؤسسات الكبرى من السوق المحلي. قبل حين كان بلح الشمال ينفُذ إلى تشاد وأفريقيا الوسطى ويضرب أرقاماً قياسية، في ضهاري أم درمان وحواري الصعيد ومفازات أثيوبيا.. الحروب أغلقت المنافذ نحو الجنوب والجبال ودارفور.. الآن، وقع (الطّاب) على هامات النخيل، كي يدفع أهله الثمن.. هذا من طبع الزمان، و(الزمان يقول لكْ جِيبْ)!