لا زلنا نقف عند أعتاب التاريخ لندخل من بوابته إلى الحقبة المايوية في سنواتها الأولى، تحديداً إلى إنقلاب (19) يوليو 1971م الذي قاد إلى حمامات دم لم تزل تلطخ تاريخ الفعل السياسي في بلادنا، ونشكر الأستاذة الفضلى السيدة فاطمة أحمد إبراهيم التي قادتنا إلى ذلك من خلال نظرتها للأحداث، خاصة وأنها فقدت أعز الناس اليها آنذاك، ونشكر لصديقنا وأستاذنا عمر الجزلي أن فتح لها الباب ولتلفزيون السودان حتى تدلو بدلوها في حدث لا ينفصل عنا ولا ننفصل عنه. حديث السيدة فاطمة هو كتابة للتاريخ ولكن بالدموع، كما أنه محاولة لتحطيم الصنم المايوي السياسي، وحتى نكون أكثر عدالة فإن الأمر يتطلب استضافة جديدة وجريئة بعد أن تكتمل هذه الحلقات لأحد أركان نظام مايو، من ذوي الارتباط بتلك الأحداث، أي إنقلاب (19) يوليو 1971م ثم عودة الرئيس نميري للحكم مرة أخرى في (22) يوليو بعد ثلاثة أيام.. ولابد أن يكون الضيف القادم هو السيد الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم، ومادام الشيء بالشيء يذكر فإنني أذكر حدثاً مهماً وقع نهاية السبعينيات، إذ كنتُ ضيفاً على رابطة أبناء أم درمان في جامعة الخرطوم من خلال رحلة نظمتها الرابطة في إحدى المزارع الخاصة بسوبا، وكان من بين أعضاء الرابطة إحدى كريمات المقدم بابكر النور سوار الذهب - رحمه الله- وقد فوجئ الحضور بمقدم السيد أبو القاسم محمد إبراهيم إلى مكان الرحلة في تلك المزرعة الخاصة، لتنفجر ثورة علنية عالية من كريمة المقدم بابكر النور سوار الدهب في وجه الرجل أدت في نهاية الأمر إلى أن تنتهي الرحلة مباشرة بعد تلك الثورة العاصفة التي تعامل معها السيد أبو القاسم بهدوء لم أشعر بأنه متناسب مع ما ناله من تجريح... ولا أعرف إن كان يذكر ذلك الموقف أم لا.. نعود للحدث وما تلاه، أي الانقلاب ثم الانقلاب على الانقلاب من خلال وثائق الحزب الشيوعي التي احتفظ ببعضها - كما أسلفت سابقاً- في جهاز حاسوبي الشخصي، لولعي واهتمامي بالتاريخ والسياسة.. فالوثائق تقول بإن التفاوض مع مايو بأسلوب الغرف المغلقة كان خطأ جسيماً، وإن الحزب الشيوعي خرج مرهقاً من معركة الانقسام الشهيرة، وصار مكشوفاً في جانبي المواقع والقدرات، وإن خطابه الجماهيري لم يكن واضحاً. وحسب مقدمة تحليل الأحداث في تقرير الحزب الشيوعي فإن سكرتارية الحزب اعتمدت في دوراتها الأولى عقب انتفاضة أبريل 1985م على طرح اللجنة المركزية القاضي بضرورة إنجاز تقييم (19) يوليو ضمن الواجبات ذات الأسبقية قبل انعقاد مؤتمر الحزب الخامس.. وأنه بعد الفراغ من احتفالات العيد الأربعين شرعت السكرتارية في تجميع وتلخيص وصياغة ما تراكم من مواد، وما نشر في أدبيات الحزب خلال سنوات (القهر المايوي)- هكذا جاءت العبارة - وصاغت مسودة التقييم وأفردت لمناقشتها 26/1/1989م و 5/2/1989م ليكتمل التقييم. ولا لقاء المزيد من الضوء على الشق العسكري وذيوله، كانت السكرتارية قد كونت لجنتين: لجنة من العسكريين المسرحين الذين شاركوا في (19) يوليو لتقييم كل العملية العسكرية في فترة التحضير إلى نجاح الانقلاب ثم هزيمته، وتوسيع دائرة الاستماع لتقديرات كل المشاركين، واستكمال ما كتبه بعضهم من السجون وتم نشره كلياً أو جزئياً في أدبيات الحزب، ولجنة لتقصي الحقائق في أحداث بيت الضيافة مواصلة لتجميع الشواهد والشهادات التي تعمدت السلطة المايوية التعتيم عليها، ولم تفلح أي من اللجنتين في إنجاز مهمتها حتى منتصف مارس 1989م حسبما هو مثبت في محاضر السكرتارية.. غداً نواصل بإذن الله.