قبل أيام قليلة بعث إليّ أستاذنا الصحفي الكبير عبد الله عبيد بهدية قيمة، معها إهداء رقيق يحمل وداً وتقديراً عظيمين.. والهدية عبارة عن وثيقة جديدة، تحفظ جزءاً من تاريخ بلادنا، ومن تاريخ الحزب الشيوعي السوداني في فترة ما، هي فترة التحاق وانخراط أستاذنا عبد الله عبيد في العمل ضمن خلايا الحزب إلى أن بلغ درجات علا في سلم القيادة، والوثيقة عبارة عن كتاب يحمل اسم (ذكريات وتجارب) تم تصنيفه ك (مذكرات) وطبع بمطابع التيسير في الخرطوم واحتوى على اثنين وأربعين مقالاً - يرتبط بعضها ببعض- ومجموعة من الصور، غير التمهيد أو المدخل الذي أشار فيه الكاتب إلى أن ذلك الجهد الفكري - الذي وصفه بالمتواضع- اكتمل مع إيقاف الحرب وتوقيع اتّفاقية السلام الشامل نيفاشا في التاسع من يناير 2005م .. الكتاب اكتمل آنذاك لكنّه صدر الآن في أواخر العام 2010م ولم يُشر الكاتب إلى الأسباب التي أجّلت ظهور الكتاب طوال هذه السنوات. صدر الكتاب - وهذا هو المُهم- ووجدت نفسي أُسابق نفسي في متابعة مقالاته ومادته الشيقة التي نجح الكاتب في أن يأخذ القارئ إلى متابعتها بأسلوب سلس، رشيق العبارة، مُشرق المفردة، وينقل خفة روح وظل الكاتب التي اشتهر بها بين من يعرفونه. تعود علاقتي بالأستاذ عبد الله عبيد إلى سنوات بعيدة، ربما تجاوزت الثلاثة عقود، ولم أزل في ذلك الوقت مبتدئاً في عالم الصحافة، بينما أستاذنا عبد الله عبيد علم يُشار إليه بالبنان، وتوطّدت علاقتي به مع الأيام وكان أول قيادي شيوعي حقيقي أتعامل معه واقترب منه، وتقوى صلتي به فتمتد إلى أن ربطت بين البيوت والأسر، وزادها قرباً علاقة شقيقه الراحل الأستاذ أمين عبيد - رحمه الله- بالسيّد حسن علي مختار، وهو جد لأبنائي وخال مُباشر لزوجتي، إذ إن تلك العلاقة جعلت التواصل يستمر بصفة أسبوعية، وكثيراً ما كنّا نسهر في نهاية الأسبوع إما في منزلي بالحارة الأولى أو في منزل السيّد حسن علي مختار القريب من منزلي. توضيح العلاقة مع الأستاذ عبد الله عبيد أمر مهم، وهناك نقطة أكثر أهمية لابد من الكشف عنها، وهي رغم التباعد الفكري بيني وبين الأستاذ عبد الله عبيد فإنه -والشهادة لله- لم يحاول أن يُقلل من أفكاري في يوم من الأيام، كما لم يحاول أن يجتذبني إلى دائرة اليسار التي يقف عندها في موقع المركز أو قريباً منها. جاءت هدية الأستاذ عبد الله عبيد في وقتها بالنسبة لي، ولم أكن فرغت بعد من تقييم الحزب الشيوعي السوداني لانقلاب (19) يوليو 1971م وما تلاها من أحداث مؤسفة، بعد أن دار حديث عاطفي حول تلك الأحداث في برنامج (أسماء في حياتنا) الذي يُعدّه ويقدّمه الأستاذ عمر الجزلي واستضاف فيه القيادية الشيوعية والنسوية السيدة الفضلى فاطمة أحمد إبراهيم التي رُزئت بفقد عظيم خلال تلك الأحداث بإعدام زوجها القيادي والنقابي الأكثر شهرة في تاريخ العمل العمالي بالسودان، الشفيع أحمد الشيخ .. وقد أوضحنا وجهة نظرنا في الأمر على مدى ثلاث حلقات مُتّصلة في ذات هذا المكان من قبل، لكن ما حمله كتاب الأستاذ عبد الله عبيد الوثيقة جاء مفاجأة أخرى، إذ إنّه كشف عن سوء علاقة الحزب الشيوعي بالنظام المايوي في بداياته، ونسب إليه الأسلحة التي تم ضبطها في إحدى المزارع بالخرطوم... بل وكشف عن توتر العلاقة بين الراحلين الرائد فاروق عثمان حمد الله، والأستاذ عبد الخالق محجوب، سكرتير عام الحزب الشيوعي في أول اجتماع دعا له وزير الداخلية فاروق حمد الله وضم كل عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، لتجيء المفارقة لاحقاً بإعدام الرجلين معاً في أعقاب فشل انقلاب (19) يوليو 1971م.