مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول هو مبدأ أصيل عرفته الدول والمجتمعات المتحضرة منذ قديم الزمان، وأكدت عليه العهود والمواثيق الدولية، خاصة ميثاق الأممالمتحدة الذي ينص في مادته الثانية في الفقرة السابعة منها على أن«ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولةٍ ما»، ومبدأ عدم التدخل له ارتباط وثيق جداً ومبني على مفهوم السيادة (sovereignty)، وهو مفهوم وإن أضحى بفعل المتغيرات التي حدثت علي صعيد السياسة الدولية أقرب إلى التقليدي، إلا أنه ما يزال يحكم علاقات الدول فيما بينها، إلا تلك التي تتنازل عنه طواعية، وهو مفهوم ما تزال له حجيته القانونية، و كثير من الدول تحتكم إليه وتحتج به في وجه الدول التي تحاول الانتقاص منه وانتهاكه خاصة الدول الكبري والفاعلة دولياً مثل الولاياتالمتحدة. ويقوم مفهوم السيادة على أساس أن الدولة هي صاحبة السلطة العليا في إقليمها وتدير شؤونها الداخلية والخارجية باستقلال وفقاً لإرادتها، ولا تعلوها في ذلك سلطة إلا بحدود القواعد الآمرة في القانون الدولي وما تلتزم به من معاهدات دولية.. ويعني ذلك أن الدولة لها مطلق الحرية في الالتزام أو الامتناع عن الالتزام بأية معاهدة أو ميثاق دولي وذلك وفقاً لما تراه موافقاً أو معارضاً لمصالحها العليا.. إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم نجد أن هذا المفهوم تعرض لهزات كثيرة متتالية، وذلك بفعل العولمة، وهي فكرة غربية صنعها العقل الغربي الذي يؤمن بالمبدأ القديم «عبء الرجل الأبيض»، والذي وجد التطبيق العملي له فيما عرف بالاستعمار، حيث قامت الدول الاستعمارية بانتهاك مفهوم السيادة للدول المستعمرة - بفتح الميم- بقيام جيوشها باحتلال هذه الدول بالقوة العسكرية، وفرضت عليها الوصاية ونصّبت نفسها قيّماً عليها لفترات طويلة، ولم تخرج منها إلا بالقوة الجبرية التي قامت بها حركات التحرير الوطنية.. والآن وبعد زوال الحقبة الاستعمارية، إلا أن النزعة الاستعمارية ما تزال باقية في العقل الغربي، وتجد ترجمة واقعية لها في ما عرف بالعولمة، وهي تطابق في جوهرها الاستعمار، فكلا المفهومين يلغي مبدأ السيادة.. والفرق أن الاستعمار استخدم القوة الخشنة بالتدخل المادي المباشر بالاحتلال بينما العولمة تستخدم ما يعرف بالقوة الناعمة (soft power) وهو مصطلح فضفاض يحوي داخله العديد من الوسائل المساعدة على انتهاك وإلغاء قدسية مبدأ السيادة للدول، وأكبر هذه الوسائل علي الإطلاق المنظمة الدولية «الأممالمتحدة» وما يحويه ميثاقها من مواد تعتبر منافذ تقوم الدول الغربية بتوسيعها للولوج بها إلى ساحات الدول لتنفيذ نفس الأهداف الاستعمارية القديمة المتجددة، ولعل المثال الأبرز في هذا الشأن يتمثل في مواثيق «حقوق الإنسان» التي تكيف الدول مسألة انتهاكها، ليس فقط وفقاً للثقافة الغربية، بل وفقاً للمصالح الغربية.. كذلك هناك مفهوم أكثر هلامية من «حقوق الإنسان»، هو «تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر»، والمقصود به السلم والأمن الغربيين، والشواهد على هذا الإدعاء كثيرة جداً، فكم من أزمات صغيرة نشأت في دول عديدة كان من الممكن احتواءها بميكانزمات ووسائل السلطة الوطنية لهذه الدول بسهولة ويسر، ومثال ذلك مشكلة دارفور التي تلقفتها مجموعات المصالح التي تعمل كأذرع حكومية في الغرب ونفخت فيها وصورتها بهذا الحجم كمبرر للتدخل في الشأن الداخلي للسودان، ليس من أجل «إحقاق الحق» ووضع الأمور في نصابها، وإنما من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها، وفي المقابل نجد أن الآلة الإعلامية الغربية التي دارت بكامل طاقتها وهي تروج لمزاعم الإبادة الجماعية في دارفور، نفس هذه الآلة لم تدر بنفس الطاقة ابّان الإبادة الجماعية الحقيقية التي شهدتها رواندا وتلك التي حدثت في غزة، وأن الدبلوماسية الغربية كانت كسولة ومتباطئة جداً في هاتين الواقعتين، بينما كانت نشطة و«مثابرة» ومبادرة في حالة دارفور، وأن جيوشها كانت سباقة الي غزو العراق وأفغانستان، ولم تفعل الشيء نفسه في رواندا وغزة . هذا التناقض في المواقف الغربية ازاء القضايا والأحداث الدولية ينبغي أن يؤخذ من جانبنا، مضافاً إليه حقنا الطبيعي والقانوني في صون سيادتنا كحجج دامغة لرفض التدخلات الغربية بكافة أشكالها في شؤوننا الداخلية ووقفها بكل حسم ، وبنظرة سريعة إلى نتائج تدخل هذه القوى في شأننا منذ بداية مشكلة دارفور مروراً بسلام نيفاشا، نجد أنها شديدة السلبية على النحو الذي لا يحتاج إلى تفصيل. لذلك أرى أنه قد حان الوقت لإغلاق هذا الباب، باب التدخل الدولي في شأننا حفاظاً على مصالحنا ومصالح أجيالنا القادمة والتي تتعارض تماماً مع مصالح القوى الغربية الاستعمارية، وأن نتجه نحو تعزيز علاقاتنا الداخلية بين مكونات هذا البلد، وتطوير أواصر الصلة بيننا وبين الدول التي تلتقي معنا في توجهاتها وتتكامل معنا في الموارد وتشترك معنا في المصالح، وإني لأرجو أن تكون نهاية هذا العام التاريخ النهائي للتدخل الأجنبي في شأننا من باب دارفور، وأن يكون التاسع من يوليو القادم آخر يوم في هذا التدخل من باب اتفاق نيفاشا.