( 1 ) حين انتدبت لمهمتي سفيراً في بيروت ، كانت الساحة فيها تمور باختلافات شتى . انتهت حرب صيف 2006 بين المقاومة اللبنانية التي كان يقودها حزب الله متحالفاً مع التيار الوطني الحر (المسيحي ) الذي يتزعمه الجنرال ميشال عون في جانب ، والعدو الاسرائيلي في الجانب الآخر . الشروخ دوخت الحكومة الائتلافية، وتفاقمت الأزمة، ونفض الوزراء الشيعة أيديهم من حكومة الوحدة الوطنية اللبنانية . بعيد وصولي بيروت بأيام، حددتْ وزارة الخارجية موعداً لي لتسليم وزير الخارجية اللبناني نسخة من أوراق اعتمادي ، وفق الأصول الدبلوماسية . وأنا في طريقي للموعد، اتصل بي مسئول المراسم لينقل إليّ اعتذاره واضطراره لإلغاء الموعد ، إذ لم يعد الوزير، وهو من الوزراء الشيعة، على رأس الوزارة . بدا الوضع بما يشبه الاستقالة ! تلك هي لبنان، وتلك بداية مهمتي في البلد الذي كتب لي القدر برغم ذلك، أن أسكن إليه، وأن أعمل فيه سفيراً لبلادي لما يزيد عن عامين بقليل. الأزمة الطاحنة لم تترك لنا، نحن السفراء الأجانب عامة، والسفراء العرب بوجهٍ خاص ، فسحة لالتقاط الأنفاس . كان من الطبيعي والمقبول عند اللبنانيين، والأزمة تطاحن نفسها، أن تسعى أطراف من المعارضة، أو من الأحزاب الموالية للحكومة، لتلتقي بسفير غربي أو عربي، ويدور الحديث بلا كوابح ولا حرج، يقلّب تداعيات الأزمة، وأوجه الخلافات تشتدّ بين الحكومة والمعارضة . كثيراً ما دعينا ، قلة من السفراء العرب ، يستضيفنا رئيس الحزب الفلاني، أو قائد التيار السياسي العلاني. نخوض في الشأن الداخلي والأزمة مشتعلة بين الأطراف اللبنانية ، نسمع غثاً وسميناً ، ونعلّق سلباً أو ايجاباً، وننصح ما شاء لنا من نصح، تغليباً لمصلحة عامة ووفق ما نرى. لم يعترضنا أو يعترض الطرف الداعي معترض، سواء من إدارة المراسم في وزارة الخارجية، أومن أيّ جهة مشابهة ، لتنبهنا أن مثل هذه الممارسة لا تتسق والعرف الدبلوماسي . لم نكن نجهل هذا الجانب من عملنا الدبلوماسي، كما لم نكن بالطبع على غفلة بمقتضيات الاتفاقيات الدولية التي تنظم الاتصالات مع المسئولين في البلاد التي نحن سفراء فيها، وربما كنت من بين السفراء، الأقل خبرة وحنكة، وربما كنت آخر الملتحقين بمجموعة السفراء العرب في لبنان وقتذاك . لكنا قبلنا جميعنا بما يقبل به اللبنانيون، من تدخل في شئونهم الداخلية بقدر. ثم نسمع في أخبار الخرطوم، أن سفارة أجنبية دعت ممثلي أحزاب سودانية إلى اجتماع لديها، مما أغضب حزب البعث السوداني الذي وصلته هذه الدعوة، فأصدر بيانا رافضاً ومنكراً لها ، ووصفها بأنها تدخل في الشأن الداخلي للبلاد. ( 2 ) لنقف قليلاً لنرى أهمية مبدأ التدخل في الشأن الداخلي للدول، وأطلعك عزيزي القاريء، دون أن أثقل عليك، على طرف من أدبيات هذه المسألة. لقد رتب المعهد الملكي للشئون الدولية بمقره بلندن، وهو مركز العصف الفكري السياسي الأشهر في أوروبا، الشهير ب "شاتام هاوس"، في 28 فبراير 2007 ،اجتماعاً لمجموعة القانون الدولي في المعهد، حيث قدم الورقة الرئيسية السير مايكل وود ، المستشار القانوني لوزارة الخارجية والكومونولث البريطانية (من 1999 إلى 2006)، بعنوان "مبدأ عدم التدخل في القانون الدولي المعاصر"، وشارك في الإجتماع لفيف من المختصين في القانون الدولي والأكاديميين وممثلي منظمات غير حكومية. بدأ الاجتماع بمقتطف من "إعلان علاقات الصداقة" الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1970 ،والذي أشار إلى أنه (( ليس لأي دولة أو مجموعة من الدول الحق في التدخل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولأي سبب مهما كان، في الشئون الداخلية أو الخارجية لدولة أخرى)). No State or group of States has the right to intervene, directly or indirectly, for any reason whatever, in the internal or external affairs of any other State. ولعل ذلك يشير إلى المبدأ الأخلاقي والقانوني العام، الذي يقرّ عدم التدخل في الشان الداخلي للدول ، سلماً أو عنفاً . وأشار المحاضر في ورقته إلى عدم الركون لتعابير مثل : "البلدان الفاشلة " أو "البلدان الفالتة " لضعف مصداقيتها القانونية. وأشار المحاضر هنا إلى أن هذا المبدأ أقرته الأعراف الدولية، وقد أُعتمد في الكثير من المواثيق والإتفاقيات الدولية ، مثل ميثاق منظمة البلدان الأمريكية، والميثاق التأسيسي للاتحاد الافريقي، وفيما لم ينص ميثاق الأممالمتحدة تحديداً إلى هذا المبدأ، لكن تجده مبثوثاً في العديد من المواد، مثلاً المادة 1 البند 2 التي تقرأ : (( يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد "الأممالمتحدة".)) والمادة 1- بند7 التي تقرأ : (( ليس في هذا الميثاق ما يسوغ "للأمم المتحدة" أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخل بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع)). ويورد المحاضر بعض ما جاء عن أوبنهايم ، المرجع الرئيس في القانون الدولي، والذي وصف المبدأ بأنه صورة "السيادة" معكوسة على مرآة، ويضيف نقلا عنه من صفحة 428 ،من سفر أوبنهايم في القانون الدولي Oppenheim's International Law: The prohibition of intervention “is a corollary of every state's right to sovereignty, territorial integrity and political independence" (p 428). أو هو لازمة من لوازم السيادة ووحدة التراب والاستقلال السياسي. يورد محمود مامداني في صفحتي 273 و274 من كتابه"منقذون وناجون"، الصادر بالانجليزية في جنوب افريقيا عن دار نشرHSRC عام2009، كيف تحول التركيز في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، من "القانون" إلى "الحق"، ومهّد ذلك للتدخل الانساني بقصد حماية أي مجموعات سكانية تكتوي بنيران النزاعات ، عبر آلية مجلس الأمن الذي تسيطر عليه دول بعينها ، ووفق الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، وصار بذلك مدخلا لأجندات تكاد تعيد استعمار البلدان الضعيفة التي استقلت في سنوات الحرب الباردة، من جديد. ونعود إلى السير مايكل وود في ورقته، إذ يشيرإلى أن المبدأ يتضمن عدم جواز استعمال القوة، كما أن مبدأ عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول، يستوجب أيضاً عدم التدخل في شئون الدول الأخرى بطريقة ديكتاتورية، مثل التدخل بدفع رشاوى لأحزاب سياسية، أو دفع مبالغ مالية بغرض التأثير على التطورات السياسية في البلد المعين . ونطرح السؤال : هل ما سعت إليه تلك السفارة الأجنبية المعينة بدعوة عدد من الأحزاب السياسية للإجتماع إلىها ، وفق ما جاء في بيان حزب البعث السوداني بتاريخ 3فبراير 2010، يقع في إطار التدخل في الشأن الداخلي للبلاد، وفق ما جاء أعلاه ..؟ وسؤال آخر يتفرع من هذا السؤال : كيف تتصرف وزارة الخارجية في مثل هذه الحالات؟ ( 3 ) أصبح التدخل في الشأن الداخلي للبلاد ، ومنذ سنوات، واقعاً ماثلاً بمبررات ودواعي انسانية، رسخته القرارات الدولية العديدة التي اتصلت بالنزاعات في السودان، سواءا تلك التي بدأت بالحرب الأهلية في جنوب البلاد ، أو تلك التي تفاقمت بعد اندلاع أزمة دارفور.لقد كان لوجود القوات الدولية والأفريقية بعد ذلك، ايحاءات بينة، كون التدخل في الشأن الداخلي أصبح أمراً مفروضاً على السودان، وتوسّع حتى أضحى مدعاة لتدخلات أخرى، أهمّ وأوقع وأخطر، بما لم تعد تتحمل معه أطراف دولية عديدة، أي بادرة مقاومة من طرف السودان . رأينا غضبة المجتمع الدولي حين مارست حكومة السودان ما حسبته حقاً محتكراً بحكم السيادة، وقررت إبعاد عدد من المنظمات غير الحكومية العاملة في دارفور، وقد أوغلت بحمولات الإغاثة وبقوافل موظفيها، في أحوال دارفور الانسانية المتردية، وأثارت شكوكاً طال تواترها واستفحالها. كثيرون رأوا في إقدام الحكومة على هذا الفعل فرفرة مذبوح قبل بالذبح بداية ثم أوجعه السلخ لاحقاً ! بيد أن مبدأ السيادة المطلقة، وبذلك المفهوم الذي ورثناه منذ سنوات الحرب الباردة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية ، أصبح في السنوات الأخيرة من القرن العشرين ، مفهوماً متراجعاً منتقصاً ، إذ نرى مقتضيات ما يسمى ب "العولمة" وقد طالت أصابعها وتفاقم أثرها، بما استوجب- حكماً- إعادة النظر في بعض جوانب القانون الدولي، المتصلة بالعلاقات بين الدول. يتذكر القراء كيف سخر رئيس عربي وعلى منبر الأممالمتحدة في سبتمبر الماضي، بمواد ميثاق الأممالمتحدة الجوفاء، وكأنه لا يسوي الحبر الذي طبعت به ! وإن برزت الحاجة إلى صياغة مواثيق واتفاقيات دولية جديدة ، فإن من بين الإتفاقيات الهامة التي آن أوان إعادة النظر في بعض موادها، إتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية والاتفاقيات اللاحقة، وخاصة تلك المواد المتصلة بالإمتيازات والحصانات، ومعاملة الأشخاص المحميين دولياً. لكأن المحكمة الجنائية الدولية وهي تمارس صلاحياتها، تناقض بممارساتها ، مواد بعينها في تلك الاتفاقيات . في ملاسنات المدّعي العام أوكامبو حول ملاحقة الرئيس السوداني، ما يعكس خطورة هذه المعضلة ، خاصة حين أطلق تصريحاً، حول ملاحقة من يتسترون بأقوالهم وأفعالهم، على الرئيس السوداني، ومهدداً بأن حصاناتهم لن تحميهم ، فكأنه يشير بإصبع إلى المندوب الدائم للسودان في نيويورك! لربما لن تخطيء وزارة الخارجية السودانية إن نبهت السفارة الأجنبية التي أرسلت بطاقات الدعوة لممثلي أحزاب وكيانات سياسية سودانية لاجتماع بممثليتها ، كون ذلك يعدّ ضرباً من التدخل في شأن داخلي ، ومحاولة سافرة في التأثير على تطورات سياسية ينتظر أن تطرأ في البلاد، رئاسةً وبرلمانا واستفتاءاً . وقياساً على ذلك، وبمعايير القانون الدولي السائد ، لم تخطيء الحكومة العراقية الحالية – إن أغفلنا عن شبهة كونها صنيعة أمريكية - في غضبتها على الإدارة الأمريكية، فيما يتصل بالسماح بالترشح في الانتخابات من عدمه، لمن يشتبه في أنهم أتباع لحزب البعث "الصدّامي". على الأقل ذلك موقف عراقي رسمي، يتسق ومقتضيات القانون الدولي السائد حالياً. الذي لاحظته أن الحزب السوداني الذي أصدر بياناً رافضاً للدعوة التي وصلته من السفارة الأجنبية المعينة ، لم يلتفت لوزارة الخارجية ليطلب تدخلها لضبط الممارسة الدبلوماسية لتلك السفارة الأجنبية ، وهو مطلب طبيعي، إلا إذا لم تتوفر الثقة في تصرف الحكومة إزاء هذه الخروقات الدبلوماسية ( 4 ) يظل الأمل حاضراً في أن تظل وزارة الخارجية باقية في موقعها، حامية للسيادة وخط الدفاع الأول عنها . حتى وإنْ أحجم مظلوم عن الإستعانة بدفعها، يكون على الوزارة واجب المبادأة بضبط المسلك الدبلوماسي الفالت لأيّ بعثة دبلوماسية أجنبية بالبلاد ، ولا يختلف حول ذلك عدو أو صديق. إن مسلك المنظمات الإنسانية تضبطه اتفاقيات وترتيبات مع الأممالمتحدة وافقت عليها حكومة السودان، ولكن يبقى ضبط البعثات الدبلوماسية مرتبطا بتطبيق ما نصت عليه اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية لعام 1963، والاتفاقيات الشبيهة . لعلي أذكّر هنا، وأنا أتابع دورات التنوير الإعلامية التي تكاثر تنظيمها، وتعددت الجهات الراعية لها، أن يتنبه المعنيون بمقتضيات القانون الدولي ، (والذي لم تقتضِ التطورات الطارئة تعديله إلى الآن) وخاصة اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية ، وأن يعرف الإعلاميون والسياسيون وقيادات الأحزاب، أين تبدأ وأين تنتهي صلاحيات البعثات الدبلوماسية الأجنبية في متابعة الشأن الداخلي ، فلا تتعداها إلى الولوغ في الشأن الداخلي، بمثلما وقع في مثال حزب البعث السوداني مع تلك السفارة الأجنبية المستأسدة ... معلومة أخيرة عزيزي القاريء تتصل بالسير مايكل وود الذي أشرنا إليه أعلاه، إذ هو عين الشاهد الذي شهد في 26 يناير الماضي، أمام لجنة التحقيق حول الحرب في العراق، أنه وبصفته مستشارا قانونيا لوزارة الخارجية البريطانية، قدم النصح مراراً لتوني بلير ولوزير خارجيته، بأن الحرب على العراق تخالف المواثيق الدولية ! نقلاً عن صحيفة الأحداث الخرطوم 6/2/2010 jamal ibrahim [[email protected]]