- من المحتمل جداً أن يكون سؤال الهويات من ضمن الأسئلة الخطيرة التي سوف تواجهنا في السنوات المقبلة، لأن تحجيم المساحات والمسافات، واختفاء الحدود وتقوية التبادلات التجارية والتقنية وتحركات الشعوب وتلاحمها، إضافة إلى تطور المؤسسات العالمية الفاعلة والمؤثرة، كل ذلك أخرج الأفراد والجماعات تدريجياً من معظم «الحصون الواقية»، وكما هو الحال دائماً تتبين المخاطر الكبرى وتبدو في غاية الاستعداد لسحق الضعفاء وتفرض على الجميع طرق تفكيرهم وسلوكياتهم وأنماط حياتهم، كل ذلك رجاء الانتفاع من هذه الفوضى العالمية. - إن الشعوب تنتفض بين الحين والآخر لأنها لا تريد أن تكون «مدمجة»، وأن تفقد ثقافتها الخاصة أو أن تصهر في خليط ثقافي دون شخصية، فتعيش تحت إملاءات أولئك الذين يظنون أنفسهم سادة العالم. الهوية الجماعية ليس من السهل شرحها أو توضيح تفاصيلها بالدقة المطلوبة، إنها تجيب على سؤال «من نحن».. ما الذي يجمعنا ضمن هوية مشتركة.. هل هي الأرض أم اللغة أم الدين أم الأجداد أم هي الطبائع والقيم.. وإن كانت الأخيرة يصبغها الدين ويورثها الأجداد للأحفاد. - الهوية الفردية كما يقول الباحث الفرنسي «جيل قرينت» «الهوية الفردية تشبه بلورة لها أضلع كثيرة لا يمكن رؤيتها جميعاً في الوقت نفسه، إننا نرى في الغالب ضلعاً واحداً على انفراد ونرى جزئياً أضلع متجاورة وتبقى الأوجه الأخرى مختفية كلياً، وعندما نسأل شخصاً ما.. من أنت فهو يبدي وجهاً واحداً من نفسه، ولكن الذي يكون جوهر البلورة ويتسق مع الأضلع يظل مخفياً، هوية الفرد هي أكبر من مجموعة صفاته مثل البلورة التي هي أكبر من مجموعة أضلعها»، أو كما قال ذاك الفرنسي. - حسب التصورات الجارية، فإن هويتنا هي نتاج ثقافة واحدة ولا شك أننا متشابهون قبل أن نكون مختلفين، كذلك علينا أن ندرك أننا حاملون لأوجه متعددة والمحصلة في عبارة قصيرة «الإنسان له هويته الثقافية، وبتعبير آخر، ثقافته هي التي صنعت هويته».. وعندما ننتهي من هذا التحقيق فإننا نسعى إلى وضع كلمة هوية نفسها بصيغة الجمع. فالهوية هي التي تصنع الوحدة، لأنها تعمل إجمالاً في جميع الظروف بلا انقطاع أو تراخٍ، وبالتأكيد يمكننا أن نتحدث عن هوية اجتماعية ودينية ووطنية ومهنية، هذه الهويات القطاعية تقابل حقيقة ما، فقد يحدث أن وضعاً اجتماعياً في مرتبة معينة أو في مهنة وضمن روابط أسرية هي التي تحدد الصورة التي أعطيها للآخرين، والطريقة التي أدرك بها نفسي، ومع هذه الهويات القطاعية يتعلق الأمر بانتماءات إلى مجموعات أو صبغات اجتماعية، وهي التي تحدد وبمستوى كبير- الأنماط السلوكية وطريقة التفكير- إننا ننتمي إلى جنس وإلى فئة عمرية وإلى عائلة ووسط اجتماعي متميز بتوجهاته الدينية والسياسية الفطرية وغير الفطرية، هذه الانتماءات تحتوي في الغالب على شحنة عاطفية قوية قد تتيح الفرصة لكل ردود الأفعال، وهناك انتماءات جديدة قد تظهر بلا شك في مسيرة الحياة يمكننا اعتبارها طارئة أو في الغالب اختيارية، كالإنتماء للمهنة أو الأيدولوجية أو حتى الممارسة الرياضية «هلال مريخ»، وهي بلا شك تحتوي على أبعاد اقتصادية أو سياسية، لكنها في الغالب قد تكون مهمة جداً في تكوين هوية ما.. ü إن الانتماء إلى أي جماعة لا يعني الاتفاق مع ثقافتها مائة بالمائة، فيمكننا أن نحب عائلتنا كثيراً دون أن نتقاسم مع بعض أفرادها الآراء السياسية أو الدينية، وفي لقاءاتنا العائلية غالباً ما نتكتم على آرائنا الآيدولوجية حفاظاً على العلاقات العاطفية. ü في زمان التوجس سقطت معظم القلاع والحصون، وبفعل فاعل انهدمت السدود وتشكلت الحدود وطفقت الأمم والشعوب تعود إلى الانتماء والاحتماء بالتراث والتاريخ والهوية خوفاً من التبدد والضياع في بحر العالم الهائج، ونحن عندما نتحدث عن شعب كشعبنا، إنما نتحدث عن حالة نشأت في «الأزل» بذرتها قديمة قدم العالم، نشأت وتطورت وبدا أن هناك نظاماً بتشكل ودستوراً واجب الاحترام، لأن النصوص والأجندة التي تسنده تنتمي إلى إشارات ومنطلقات هي الفطرة، والفطرة هي الإسلام. - يقول المرحوم والمفكر العربي «محمد عابد الجابري»- «نحن نتحدث عن كيان نشأ وتطور مع الإسلام وانتشاره، ولقد بدأ هذا الكيان في التشكل مع الصحيفة المعروفة ب«صحيفة النبي»، وهي عبارة عن ميثاق أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وكان ذلك مع سكان المدينة من المهاجرين والأنصار ويهود، وكان ذلك بمثابة ميثاق «قومي» بالفعل لأنه أكد في أهم بنوده أن المهاجرين والأنصار وبقية سكان المدينة، هم جميعاً أمة واحدة متعاونون ومتضامنون ضد أي اعتداء خارجي، فنشأت الوحدة القومية بين المتساكنين في يثرب، وهم المهاجرون القادمون من مكة والأوس والخزرج سكانها الأصليون»، هذه فقرة حديث المرحوم الجابري. - إن التجارب التي منها الأفراد والتحديات التي تواجه الشعوب، تجعل من الضروري وبين الحين والآخر إعادة ترتيب بعض الأجندة والعناصر المهمة الشخصية والجماعية، بالشكل الذي يمكننا من اجتياز الأزمة التي تنشأ حين سوال الهوية في مثل ظروفنا الوطنية هذه، لأنها في الغالب هي حالة «بعض» نفسية، وهي أشبه بأزمة على صعيد الوعي، قد تشتد لدى أشخاص أو شرائح اجتماعية إلى الدرجة التي تؤدي إلى الطرح السلبي لمسألة الهوية من تضخيم لشأنها أو إنكارها بالمرة، وذلك على الرغم من أن المسألة برمتها تفضي إلى إعادة التوازن داخل الوعي الفردي أو الجماعي، وفي البدء لا نريد أن نهمش الجغرافيا انحيازاً للتاريخ والعكس لا ينبغي أن يكون صحيحاً.علينا إذاً أن نتناول مسألة الهوية المطروحة حالياً من منظور تاريخي وجغرافي، منظور موضوعه لا الهوية في صفتها الثابتة فحسب، بل الهوية من حيث إنها وعي بالذات متطور ومستجيب لمتجددات الزمن، إنها المتجددة دون التخلي عن الأصول والجذور الحقيقية، كذلك علينا أن نتجنب «الانتساب الخطأ» في كل مراحل التطور والتجديد، فتلك أمم بائدة لا نسأل عما فعلت ولا تسأل هي عما فعلنا.. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تطور الوعي بالذات لدينا عبر التاريخ، نحن المعتبرين ضمن السكان في الرقعة التي تمتد من المحيط إلى الخليج.. كيف تمت أو تتم لدينا علاقات جدلية تاريخية بين ذواتنا والمعطيات الخارجية؟.. سؤالان يمكن صياغتهما في واحد.. وهو كيف يمكننا أن ننظر إلى مسألة الهوية في هذا الوطن وفي هذه المنطقة.. نحن في السودان «الوطن الأزمة»، أفلح الآخر في استدراجنا إلى حالة التجادل التي أوشكت أن تعصف بالوطن.إننا في غمرة الدفاع عن الهوية وترسيخ معانيها في الذات الأنا أو الذات ال«نحن».. في ذات الغمرة ينبغي التركيز على التاريخ مع الوعي بالجغرافيا أيضاً، فالتاريخ هو التراث وهو الأصول والجذور والجغرافيا، هي الأرض التي بأمر الله نمشي في مناكبها ونأكل من رزقه «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النُشُور» صدق الله العظيم.. سورة الملك الآية «15». الهوية للشعوب والأمم هي القدر القاهر، وهي الجلد الذي لا ينبغي أن ينسلخ، هي كالاسم للشخص، وكالملامح للوجه.. ومتى ما انتبه المرء إلى قدره، فإنه يخرج من حالة الحياة السطحية المقتربة من الحيوانية، وأن من الجهد الضائع أن تحاول التحلل من رباط الهوية التي أحكمت علينا بها أقدار القرون إن هويتنا هي التاريخ والتراث في إطار الجغرافيا و«الأنساب الصحيح».