هذا مقال طريفٌ وظريف، بعث لي به الدكتور عبد المنعم عوض الله من القضارف، يتناول فيه نظرية اقتصادية حول ما يعرف ب«الطلب الفعال»، ويشرح كيف أن تلك النظرية لها أصولها في الثقافة السودانية العامة، من غير توثيق أو ملكية فكرية، لكننا نعتمدها ونعلي من شأنها عندما تأتينا من الخارج «كنظرية أكاديمية»، فنعكف على قراءتها وتدريسها وتطبيقها بينما هي موجودة لدينا وتمشي في الأسواق دون أن ينتبه لها أحد. وشكراً للدكتور عبد المنعم على حرصه على التواصل مع زاوية «الإضاءات» وفيما يلي نص مقاله: كنا في اجتماع في جامعة القضارف، وخلال المداولات أشار أحد أساتذة كلية الاقتصاد أن لديهم ما يُسمى ب«الطلب الفعال»، وهو الطلب المسنود بقوة شرائية بمعنى أنه الطلب الذي يتبعه دفع المال، وهى إحدى النظريات الاقتصادية. وفى المقابل هنالك الطلب الغير فعال، وكمثال عليه «طلبات الزوجات العزيزات..» فهي طلبات لا تدعمها قوة شرائية في غالب الأحوال... وأنا كثير البحث عن جذور نظريات الخواجات في الثقافة السودانية، لأن لدي اعتقاد راسخ لا يتطرق له الشك في أن الكثير من تلك النظريات له أصل في تراثنا وثقافتنا السودانية.. وربما يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد الخواجة نفسه بعدة قرون. واسمحوا لي بمقدمة موجزة، فلدينا في السودان الأسواق الريفية الأسبوعية التي يكون الذهاب إليها مرتين في الأسبوع، وهى مناسبة احتفالية يتحلق فيها الصغار حول الجد أو الأب في الصباح الباكر وهو يمتطي صهوة حماره كفارس ذاهب لتوه إلى معركة، وكل منهم يطلب شيئا أو هدية. هذا السيناريو يتكرر في رحلتي الذهاب والعودة انتظاراً لما يأتي به من خيرات السوق. وكما حُكي لنا فإن الصبية قد أوصوا جدهم بأن يحضر لكل منهم «صفارة»، وقام أحدهم بإعطاء جده «قرشاً» دون الآخرين، فما كان من الجد إلا أن قال له: «والله... بس أنت الصفرت»، وذلك لأن طلبه كان مدعوماً بقوة شرائية دون أقرانه، أليست هذه العبارة هي نفسها نظرية الخواجة؟.. إن الفرق الوحيد بين جدنا والخواجة هو أن جدنا لم يجد الفرصة لنشر نظريته تلك، وحتى لو فرضنا جدلاً أن عهد جدنا كان بعد ذلك الخواجة فمن المؤكد أن جدنا لم يسمع بتلك النظرية ، وهنالك احتمال مرجح أن يكون الخواجة قد اقتبس «نظرية الطلب الفعال )من( نظرية الصفارة» كسرقة أدبية، لأنه في ذلك الوقت لم توجد حقوق أو ملكيات فكرية تحمى «جدنا المسكين» من تغول ذلك الخواجة. ومن هنا يستمد هذا الشعب عظمته فنظريات الخواجات يتم تداولها لدى عامة الناس، وثقافتنا غنية بتلك الحكم والنظريات، وهنالك حكمة تقول «يرى الشيخ الكبير ما لا يراه الشاب الصغير» فالرؤية هنا رؤية بصيرة، فبحكم الخبرة وتراكم التجارب فإنه عند عرض المشكلة عليه يستطيع تقديم الحلول في زمن وجيز تماماً مثل جهاز الحاسوب، ولذلك فإن مجالس الصلح والأجاويد عندنا تتكون من الشيوخ، وذلك لتميزهم بالبصيرة الثاقبة والقدرة على سبر أغوار المشكلة.. سادتي فلنجعل من نظرية الصفارة شعارا .. وليكن طلبنا مسنوداً بالقوة الشرائية.. دائماً. الدكتور . عبد المنعم عوض الله بابكر (ودعشيب)