الشاهد أن الأحداث السياسية المتلاحقة في السودان منذ الاستقلال لم تترك للبلد فرصة لالتقاط الأنفاس لعملية البناء والتنمية وقيام الدولة القوية على أسس ونظام حكم يتوافق عليه الجميع، فمنذ بداية حركات التحرر الوطني والكفاح ضد المستعمر والمطالبة بالاستقلال انقسم السياسيون ما بين مطالب بوحدة وادي النيل واستقلال تام عن الحكم الثنائي في ظل وجود جنوب قيض له الاستعمار سياسة المناطق المقفولة وعزله مما جعله جسماً مناوئاً للشمال ظلت مطالبته السياسية الوحيدة منذ تمردهم الأول في «توريت 1955م» وتلاحقت ظهور حركاتهم من أنانيا «1» إلى أنانينا «2» انتهاء بالحركة الشعبية لتحرير السودان.. هي تطبيق العدالة والمساواة والحقوق أسوة بالشمال ثم تطورت إلى حق تقرير المصير الذي أقرته «ثورة الإنقاذ» التي جاءت إلى سدة الحكم في أواخر الثمانينيات لتجعل من اتفاقية السلام الشامل وثيقة عهد وسلام لإنهاء حرب دامت «50 عاماً»، وتقدم حق تقرير المصير مهراً للسلام والذي استكملت حلقاته باستيفاء آخر استحقاقات الاتفاقية وهو الاستفتاء والذي تشير دلالاته إلى خيار الانفصال وتكوين دولة الجنوب، و انتهاء مرحلة وبداية مرحلة جديدة في تاريخ السودان السياسي.. السؤال ما هو شكل الدولة الجديدة في السودان الشمالي بعد الانفصال.. وما هي الخطوات الضرورية لبناء دولة قوية تضمن الاستقرار والسلام وعدم التشظي من جديد!!. «آخر لحظة» ترصد المشهد السياسي السوداني وفقاً للمواقف السياسية للحكومة والمعارضة. الحكومة العريضة والمعارضة الكبيرة!! في خطاب ليلة الاستقلال وجه الرئيس عمر حسن أحمد البشير رسالة إلى أحزاب المعارضة وكل القوى السياسية بالسودان بأن البلاد مقبلة على مرحلة جديدة سيتم فيها استيعاب الجميع وفق دستور جديد لتكوين حكومة ذات قاعدة عريضة في انفتاح وتغيير سياسي عن ما هو قائم من نظام حكم جاء وفق اتفاقية نيفاشا التي استنفذت أغراضها بآخر استحقاق فيها. المعارضة من جانبها رفضت اقتراح الرئيس بتكوين حكومة ذات قاعدة عريضة ووصفتها «بدعوة المراكبية وتمومة جرتق» على حسب قول رئيس حزب الأمة الصادق المهدي، واقترحت قيام حكومة انتقالية وعقد مؤتمر دستوري والاتفاق على برنامج وطني وإجراء انتخابات تؤسس لجمهورية برلمانية مدنية قائمة على التداول السلمي للسلطة، وأمهلت المعارضة الحكومة حتى إعلان نتائج الاستفتاء التي شارفت على نهايتها، بل ذهبت أبعد من ذلك وهددت بقيام انتفاضة شعبية على غرار ما حدث في تونس، مشيرة إلى أن الدستور سوف يفقد صلاحيته بمجرد إعلان دولة الجنوبالجديدة.. مطالباً بالرجوع إلى النظام القديم نظام الستة أقاليم. وفي السياق لم يرفض المؤتمر الوطني مناقشة الأحزاب، ودعا إلى الحوار غير أنه حذر من الفوضى وجر البلاد إلى الهاوية وضرورة الجلوس لسماع أطروحات المعارضة دون شروط مسبقة على حد قول كمال عبيد وزير الإعلام. الخروج من الأزمة السياسية!! أكد العديد من الخبراء والمحللين السياسيين بأن المرحلة القادمة دقيقة ومفصلية في تاريخ السودان السياسي، ولابد أن ينظر الجميع إلى الوطن أولاً ومصلحته في أن يكون موحداً ومتماسكاً وتناسي كل الخلافات الحزبية والمكاسب الذاتية لبناء دولة قوية على أسس جديدة يتوافق عليها الجميع لتكون قاعدة راسخة لا تحتاج إلى مطالبات جديدة من قبل أي قوى سياسية أو جماعات أو حركات تبحث عن عدل وسلطة أو ثروة، وهنا يبرز دور الحكومة في النظرة الثاقبة والمهمة وخاصة الحزب الحاكم والمتحكم في كل مفاصل الدولة وهو المؤتمر الوطني، فبعد كل هذه التجربة السياسية التي امتدت لأكثر من عشرين سنة وتوقيع اتفاقية السلام الشامل وإنهاء الحرب واتخاذ القرار الشجاع في الاتفاقية بحق تقرير المصير لوضع حد لصراع الجنوب وإيفاء استحقاقات الاتفاقية كلها أو أغلبها، تبقى أن يكون القرار الشجاع الآخر قبول كافة أنواع الطيف السياسي السوداني في المرحلة المقبلة، ليس على طريقة الدعوة إلى حكومة عريضة فضفاضة، ولكن على أساس مؤتمر قومي جامع يناقش فيه الكل طرق الحل لمشكل السودان السياسي ووضع دستور قومي يوافق عليه الجميع دون إقصاء لأحد، واختيار نظام حكم لا يظلم أحداً ويساوي بين الجميع ولا يرفضه أحد.. ومن ثم من تجيء به الانتخابات الديمقراطية إلى سدة الحكم يطرح برنامجه خلال فترة حكمه بشرط أن لا يتعارض مع الدستور والقوانين المتفق عليها سابقاً، وإذا نجح برنامجه في فترة حكمه سيكون هذا سنداً له لاختيار الجماهير له في الفترة المقبلة من الانتخابات، بغير هذا تكون المشكلة قائمة.. والصراع محتدماً.. ونذر انقسامات جديدة أمراً واقعاً.. خاصة وأن مشكلة دارفور ما زالت تراوح في مربعها الحوار تارة والقتال تارة أخرى، وتتحرك المعارضة المهدد بخروج الشارع مع وجود الضغوط الخارجية من المجتمع الدولي وعدم رفع العقوبات عن السودان من قبل أمريكا وتلويحها بالجزرات لضرورة اتخاذ خطوات وطنية شجاعة تحسب لها إذا عملت على تنفيذ إستراتيجية وطنية سياسية جديدة على طريقة التغيير الديمقراطي الداخلي دون ضغوط واستيعاب الجميع في مرحلة انتقالية ضرورية ومفصلية لقيادة البلاد من شر الحرب والانقسام والتمزق، مع حلحلة كافة القضايا العالقة مع الجنوب سلماً في وقت أحوج فيه الشمال إلى حالة استراحة محارب وهدنة لترتيب البيت السوداني الداخلي والاستواء على إرادة سياسية وطنية تفضي إلى الاستقرار والأمن. المشهد الآن!! بينما المعارضة تحشد أطرافها في انتظار نتيجة الاستفتاء، طارحة برنامجها حول مستقبل السودان في تشكيل حكومة انتقالية وفق برنامج وطني تتواضع فيه كل القوى السياسية، تظهر لهجة حادة من نائب رئيس المؤتمر الوطني د. نافع علي نافع وتوعده للمعارضة بحصد الحسرة والهشيم، مذكراً بفشلهم في الانتخابات التي جرت. ومنوهاً إلى عدم اتخاذ مواقف تؤدي إلى الفتنة في البلاد. ويظل الموقف ساخناً في شتاء السودان السياسي ما بين المعارضة المترقبة والحكومة المتوثبة.. وفي حاجة إلى إعمال العقل والحكمة لتفادي أية أزمة جديدة تعود بالبلاد إلى مربع الحرب والكرة في ملعب الحكومة وحزب المؤتمر الوطني لاتخاذ القرارات الشجاعة والوطنية للخروج من المأزق السياسي في تكوين حكومة ذات دستور قومي يوافق عليه الجميع.