بينما قال الرئيس عمر البشير في ولاية نهر النيل إن انفصال جنوب السودان بإرادة أهله يجعلنا نحتفل مع الجنوبيين باستقلال دولتهم ولا مكان لخيام العزاء والحزن، تذهب بعض قيادات المؤتمر الوطني للتأكيد والجزم بأن المواقع الدستورية للجنوبيين في الحكومة الاتحادية سيتم إخلاؤها غداة إعلان نتائج الاستفتاء الأولية هذا الأسبوع، وبعد إعلان ممثل المؤتمر الوطني في مفوضية التقويم سيد الخطيب عن استمرار الأوضاع على ما هي عليه حتى التاسع من تموز يوليو القادم موعد نهاية الفترة الانتقالية.. فإن د. محمد مندور المهدي القيادي في المؤتمر الوطني يتأبط رأياً آخر يقول بطرد الجنوبيين من مواقعهم الدستورية بأعجل ما تيسَّر واختار بعض قيادات الحركة الشعبية ردة فعل أكثر استفزازاً لهؤلاء بإعلان وقف ضخ 50% من بترول الجنوب للشمال واعتبار الفترة الانتقالية منتهية في فبراير بدلاً عن يوليو القادم؟؟ بعيداً عن ابتسار تفسير نصوص الاتفاقية وتجييرها لمصلحة المطالبين بمقاعد الجنوبيين في الحكومة المركزية وضرورة خلوها فور إعلان انفصال الجنوب، فإن نصوص الدستور والاتفاقية ليست «قرآناً»، ومصلحة الأمة تعلو على ماعداها من مصالح لأحزاب أو جماعات وأفراد، ونصوص اتفاقية نيفاشا وتدابيرها ظلت محل شد وجذب لأنها حمالة أوجه عديدة وتنطوي على (دغمسة) لا يفك طلاسمها إلا النخبة التي صاغتها في ليالي نيفاشا، والتي أصبحت ذكريات بطعم الشهد عند البعض وبطعم العلقم عند آخرين، ومذاق نيفاشا مختلف شرابه بحسب الضفة التي اختارها أي من (المشروعين السياسيين)، وللاتفاقية وجهان، للفترة الانتقالية ستة أشهر بدأت من تأريخ التوقيع على الاتفاقية وحتى اكتمال مطلوبات الفترة قبل الانتقالية والوجه الآخر يبدأ من تاريخ اختيار الجنوبيين للانفصال ولمدة (6) أشهر قادمة، فإذا كانت الفترة قبل الانتقالية قد خصصت لدواعي دمج المؤسسات وتشكيل الوحدات العسكرية المشتركة، وتهيئة المناخ لشراكة بين مشروعين (إسلامي وعلماني) ينتهي باستفتاء الإقليم ليختار ما بين الوحدة والانفصال فإن العبرة من الفترة الانتقالية الثانية التي تمتد من إعلان جنوب السودان لاستقلاله ولمدة ستة أشهر هي إعادة توزيع المقتنيات وفصل المؤسسات وفك الارتباط بين مؤسسات الدولتين وهي فترة قصيرة جداً، لم يراع الشريكان السابقان حينما وضعوا الدستور الانتقالي تعقيدات تبعات الانفصال من تفاوض مارثوني طويل تتخلل خلافات حول تقاسم مقتنيات الدولة القديمة، والسودان ليس نسيج وحده وانقسام لدولتين ليس حدثاً منزوعاً عن تأريخ انقسامات شهدتها دول عديدة منذ الكوريتين والمانيا وجنوب أفريقيا وزمبابوي واليمن ودول الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وباكستان وينجلاديش، وثمة تاريخ طويل وإرث محفوظ كيف انقسمت تلك الدول وأي الطرق تم سلكها في كيفية توزيع وتقسيم الأصول والديون.. والسودان انقسم لدولتين وسبقته تجارب بها يحتذى وعلى خطاها يمشي.. ولكن التيارات الموغلة في المشي مغمضة العينين مكبة على وجهها.. تعتقد أنها وحدها تفكر في الأشياء وبأمرها تمضي صيرورة الحياة في تجاهل معيب لحقائق واقع السياسة ونصوص الاتفاقية التي تتحدث عن فترة فك الارتباط المحددة بستة أشهر!! فكيف يتم فك الارتباط وتقسيم الأصول وتوزيع المقتنيات في غياب وزراء الحركة الشعبية من جنوب السودان؟؟ مصلحة الجنوب والشمال في انقسام هادئ وحدود مرنة كما جاء في التزامات الرئيس البشير والفريق سلفاكير ميارديت نائب رئيس الجمهورية، ولكن غلاة المتشددين في جوباوالخرطوم يزرعون بذرة الشقاق لدولتين أرهقتهما الحروب والنزاعات وتبحث الأولى أو ينبغي لها أن تبحث عن استقرار ينأى بها عن الحروب لمدة أقلها (10) سنوات لبناء قواعد دولة على أنقاض أقليم حطمته الحروب والنزاعات وشعب غير منتج تشبع بالإغاثات والإعانات في المنافي ومناطق النزوح ودولة أخرى طحن شعبها الفقر والبؤس يتوق لاستقرار بعد طول حروب لم يحصد منها إلا الموت وشظف العيش والصراع السياسي العنيف والانتفاضات والسجون والقمع والإقصاء والإقصاء المقابل... وزراء لتصفية التركة : وجود وزراء الحركة الشعبية في الحكومة الاتحادية لمدة ستة أشهر تقضيه المصلحة العامة قبل نصوص القانون والدستور ورغبات بعض القيادات التي تنظر لأسفل قدميها وتهزم كل المعاني التي وردت في خطاب الرئيس بنهر النيل، ومن قبل ذلك خطابه الشهير للجنوبيين في جوبا، وكان الأحرى بقيادات مثل د. محمد مندور المهدي رضع السياسة منذ صغره، حيث كان والده من رموز الحزب الاتحادي الديمقراطي أن يتحلى بفضيلة سعة الصدر والسماحة والنظر لمصالح الدولة الشمالية قبل الجنوبية في الإبقاء على وزراء الجنوب في مواقعهم للمساعدة في حل معضلات الانقسام التي تمثل تحدياً كبيراً لقدرات حزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية معاً.. وانقسام دولتين يشمل حتى العلم القديم لأنه ثروة قومية وماركة تجارية وتشمل المشروعات القومية في الجنوب والشمال.. وفي حقل التعليم العالي وحده يوجد (15) ألف طالب وطالبة وأستاذ جامعي وموظف في جامعات جنوب السودان، وربما ضعف هذا العدد من أبناء الجنوب في الجامعات السودانية من الفاشر حتى كسلا.. فكيف يتم التفاهم بين الطرفين إذا طرد وزير التعليم العالي بروفيسر بيتر تيوت وتم تسليم إدارة الوزارة لوزير المؤتمر الوطني بروفسير خميس كندة جكو؟؟ وإذا تظاهر الخمسة عشر ألف من الطلاب والأساتذة في وجه الحكومة مطالبين بحقوقهم فإن هؤلاء وحدهم كفيلون بإسقاط الحكومة!! وإذا ترك المؤتمر الوطني الخيار الطوعي لوزراء الجنوب لذهب نصفهم بالاستقالات الطوعية، لأنهم قيادات يبحثون لهم عن مواقع في الدولة المستقلة، ولكن بعض قصار النظر في الشمال يعتبرون الإساءة لهؤلاء القيادات بطردهم من مواقعهم ولفظهم بعيداً عن الشمال يشفي غليل الصدور التي تموج بالغضب جراء اختيار الجنوبيين الانفصال، ولكن يتناسى هؤلاء بأن حسن الجوار الذي يبتغيه الرئيس عمر البشير يبدأ بإحسان وداع وزراء الجنوب ومنحهم شهادات الوفاء والعرفان والتقدير وليس الطرد والإساءة لقيادات هم أعزاء عند عشيرتهم ومن خلالهم يبدأ نسيج خيوط وحدة طوعية من الغيب تأتي في مقبل السنين أو القرون القادمة!! الإسلام ومصر : حينما اختار السودانيون الانفصال عن مصر والاستقلال بدولتهم الحرة في 1956م بإنجاز نواب الحزب الوطني الاتحادي الذي كان ينادي بوحدة وادي النيل، لم تمارس القاهرة ما يسعى إليه حاج ماجد سوار والطيب مصطفى ومحمد مندور المهدي.. بل اختارت القاهرة حسن الرعاية للسودانيين وجعلتهم مواطنين لهم حقوق مثل المصريين، لأن النخب المصرية تزرع ثمرة المستقبل ونحن يفكر بعضنا بعقلية تاجر القطاعي في الأحياء الفقيرة.. وهو يكتب أمام متجره (الدين ممنوع والزعل مرفوع) واتخذ السودانيون مصر وطنهم الثاني، وظلت القاهرة محط أنظار النخب السودانية، وفي حقبة ما قبل 1990م كان المرضى من السودانيين لا يعرفون دروب الأردن والسعودية والمانيا.. كل المرضى يذهبون لمصر وكانت المطابع المصرية هي قبلة الكتاب السوداني، ولسوء علاقات الخرطوموالقاهرة أصبحت الأردن هي مشفى السودانيين ودمشق مطبعتهم.. فلماذا لا نحسن وداع نخب الجنوب وقياداتهم حتى تصبح مستشفيات فضيل وساهرون والجنوب هي القبلة التي يقصدها أهلنا في الرنك وملكال وبانتيو.. وحتى لا يصبح الجنوب سوقاً لمنتجات البرير وأسامة داؤود، وسيحصد السودان سنوياً ملايين الدولارات من الجنوب بدلاً عن (غبائن) الأفراد والمواقف العنترية التي لن تقتل ذبابة.. وأين نحن من الإسلام وقيمه في الإحسان للإنسان وتكريم بني آدم، ولنا في تونس الخضراء أسوة فقد حكمها أجنبي مسلم قادم من أقليم القوقاز كان عبداً لأحد التوانسة الأثرياء، لكنه عتق نفسه ودرس الفقه وعلوم الطبيعة والقضاء الشرعي حتى بلغ كاتب الدولة الأول أي رئيس الوزراء، وهو العالم الفقيه خير الدين التونسي صاحب كتاب «غرائب الأسفار وعجائب الأمصار».. فلماذا لا نجعل من حرية الاختيار في الإقامة للجنوبيين في الشمال وللشماليين في الجنوب عربوناً للصداقة والعشرة النبيلة، ويجمع بين الشماليين والجنوبيين الدم وصلات الرحم والنيل الذي لن يكون بعيداً مثلماً تمنى وصوَّر صلاح أحمد إبراهيم رحلته لباريس مفارقاً نظام جعفر نميري (فراق الطريفي لي جملو)، وليبقى بعير الطريفي يشيد للفرح مرفأ، ورحيل وزراء الجنوب على قلتهم لن يحل نصف مشاكل السودان.. ولشاعر أمدرمان موقف من الرحيل حينما قال: منو العمق جذور العزة جوَّه الطين وماها ماهو ساعة الرحلة للمجهول منو السلَّم صغارو الغول وكان اتغشه لم يتأمل العيش الملى القندول.. ويبقى قندول الرضاء قادراً على إطعام العشرات ببركة المسيد وقصة البلدين المنقسمين لدولتين يتوق عامة مواطنيهما لعيش رغد ويسعى ساستهما لإشعال حريق لا ينطفئ!!