كان سؤالنا الرئيس في «إضاءة» الأمس وعنوانها هي: أي صباح تنتظره أرض الكنانة اليوم.. بعد جمعة الأمس التي أطلق عليها شباب التحرير «جمعة الرحيل»، التي احتشد فيها نحو مليون مواطن بميدان التحرير ومداخله، وخرجت فيها مئات الآلاف في مدن مصر الأخرى في الدلتا والصعيد مطالبين برحيل الرئيس مبارك، فأدار الرئيس أذناً صماء لتلك الملايين من الحناجر، وشاح ببصره عن تلك اللافتات المكتوبة بالخط العريض باللغتين العربية والإنجليزية، وذلك لتقدير يخصه، و«تقدير الموقف» هو من أخص تدريبات القادة العسكريين.. والرئيس مبارك وبحسب ما قال في آخر ظهور له إنه كقائد عسكري ليس من أخلاقه خيانة العهد أو التخلي عن المسؤولية، وأن مسؤوليته تحتم عليه أن يكمل دورته ويرتب لانتقال السلطة، دون أن يترك البلاد ل«الفوضى» كما أبلغ مذيعة «إى بي سي» الأمريكية كريستيانا ماينبور أمس الأول، لذلك تجاهل كل تلك الأصوات المنادية برحيله في «جمعة الغضب». لسنا هنا في وارد متابعة التطورات الميدانية التي شهدتها مصر في جمعة «الرحيل» الذي لم يتم، فقد تابعها الجميع عبر القنوات الفضائية، لكن اليوم ذاته قد شهد على المستوى السياسي تحركات وأحداثاً سياسية بدا أنها تقترب من إحداث شرخ في جدار الأزمة، دون أن تحدث اختراقاً ملحوظاً ومؤثراً. أبرز هذه التحركات هو تحرك ما سمي «بلجنة الحكماء»- وهي في الحقيقة أكثر من لجنة، حيث ابتدرت شخصيات كبيرة ومسؤولة من رجالات مصر من الساسة والعلماء والكتاب والباحثين اتصالات مهمة لتجسير الهوة بين النظام الحاكم والشباب الثائر في ميدان التحرير وقوى المعارضة السياسية على وجه العموم، ففي جانب النظام بدأت اللجنة الرئيسة ومن بين رموزها عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية- الذي زار ميدان التحرير وخاطب الشباب- والعالم المصري حامل جائزة نوبل أحمد زويل وأحمد كمال أبو المجد رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة سابقاً، ود. وحيد عبد المجيد مستشار مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، ود. عمرو حمزاوي الباحث بمركز كارينجي للسلام، بدأت نشاطها بالاتصال بنائب الرئيس عمر سليمان ورئيس الوزراء الفريق أحمد شفيق، وبنت خطتها الرئيسة للحوار على عدة مقترحات أبرزها استمرار الرئيس حسني مبارك في موقعه كرئيس للدولة، على أن يفوض نائبه عمر سليمان لإدارة شؤون الفترة الانتقالية بصلاحيات تمكنه من إجراء الإصلاحات السياسية والدستورية المطلوبة لعملية الانتقال من الآن وحتى موعد انتهاء ولاية الرئيس مبارك بحلول شهر سبتمبر المقبل، وأن يحتفظ الرئيس بالصلاحيات السيادية العليا كإعلان الحرب أو حل مجلس الشعب أو الوزارة. لكن رئيس الوزراء أحمد شفيق استبعد في وقت لاحق وعبر الفضائيات، إمكانية «التفويض» لنائب الرئيس بالشكل الذي اقترحته اللجنة أو بالطريقة التي طرحها مجلس الشيوخ الأمريكي في قراره منذ يومين والذي يصل لمرحلة الدعوة لتنحي الرئيس وتكليف نائبه بجميع الصلاحيات. أما على صعيد الاتصالات مع «شباب التحرير»، فقد طلب أعضاء لجنة الحكماء الرئيسة، المشار إليها أعلاه، من الشباب اختيار قيادة تمثلهم في عملية التفاوض والحوار، وقيل لاحقاً إنهم اختاروا مجلساً من ستين شاباً يتصدرهم عشرون للحوار والاتصالات، ويبقى الأربعون الآخرون بمثابة مجلس للشورى لمراقبة أدائهم وتوجيههم، لكن يبدو أن حتى هذه الخطوة على هذا الصعيد محفوفة بالمخاطر بعد الأنباء- غير المؤكدة- من أن بعض قادة الشباب قد تم اعتقالهم، مما يقود- بالضرورة- إذا ما صحت تلك الأنباء- إلى مزيد من غياب الثقة في النظام، ويؤكد لا جدوى الحوار معه ويدفع للتشدد وإعلاء سقف المطالب العالي أصلاً. د. وحيد عبد المجيد أشار في وقت متأخر الليلة الماضية في حديث مع قناة «دريم-2» المصرية، إلى أن عمل «لجنة الحكماء» يعاني قدراً من الإلتباس، حيث توجد أكثر من ثلاث لجان تحمل ذات الاسم، وأوضح أن أكثرها تشدداً تلك اللجنة التي يرأسها د. محمد سليم العوا، وهذا قاد إلى كثرة الحوارات وتعدد الرؤى واختلافها من لجنة لأخرى، ومع ذلك لم يقطع الأمل من أن يحدث تفاهم بين تلك اللجان، وتوقع أن يحدث اختراق في التفاهم بين «الحكماء» والنظام خلال اليومين القادمين وإن لم يجزم بذلك، مشيراً في الوقت ذاته أن اللجنة الثالثة يقودها كل من الدكتور ضياء رشوان والصحافي والناشر والنائب السابق مصطفى بكري. لكن تبقى هناك مشكلة مهمة في سبيل التفاهم عبر هذه اللجان التي يقودها أناس «متطوعون» هي مشكلة «التفويض» من جهة، لأن معظم هؤلاء ليسوا شركاء أصليين في الأزمة، إلا من حيث إنهم مواطنون مصريون، وبالتالي ينقصهم التفويض المؤسسي الذي يعطي مشروعية للنتائج التي يتوصلون إليها، وهم في هذه الحالة يجب أن يحصلوا على شكل من أشكال التفويض من الشباب المنتفض ومن اعتراف رسمي من قبل النظام، وهو اعتراف قد لا يتيسر في ضوء غياب مجلس الشعب من جهة، وفي «الشرعية المنقوصة» للمجلس الذي أضحى ذاته بعض موضوعات الجدل الثائر في الساحة السياسية خصوصاً بعد إعلان رئيسه ورئيس الجمهورية الالتزام بأحكام القضاء في الطعون الموجهة لنحو مائة من أعضائه. في مؤتمر صحافي له الليلة الماضية مع رئيس الوزراء الكندي ستيف هاربر قال الرئيس الأمريكي أوباما إن على الرئيس مبارك إرهاف السمع لمطالب المحتجين، وكرر أن الولاياتالمتحدة ليست هي من يقرر ما يجب أن يحدث والشعب المصري هو الذي يحدد مستقبله، مشيراً إلى ضرورة إجراء انتخابات حرة، لكن لهجته اتسمت خلال المؤتمر بقدر من اللين والحذر تجاه الرئيس مبارك الذي وصفه بأنه رجل وطني ويحب بلده، وربما في ذلك إشارة لعدم ممانعته في استمرار مبارك برغم دعوة الشارع للرحيل، إذا ما تمكن الأخير من فتح منافذ «للانتقال السلمي للسلطة» والإصلاحات المطلوبة، مما يهييء له نهاية مشرفة وهبوطاً آمناً من سدة الرئاسة، كما يدعو لذلك رئيس الوزراء شفيق، وهي دعوة بدأت تجد القبول من كثير من المعارضين الذين كانوا يرون في رحيله شرطاً ضرورياً وضمانة لنجاعة الحوار. المشكلة الآن هي إلى أي مدى تستطيع مصر أن تعبر عن الواقع الذي خلفته الأزمة المتفجرة والتي دخلت أمس يومها الثاني عشر، واقع عطل الحياة في كل مفاصلها الرئيسية، عطل السياحة والتجارة والإنتاج الصناعي وجعل ثلث المصريين الذين يعتمدون في دخلهم على الكدح اليومي في مهب ريح الجوع والضياع، ثم إلى أي مدى يستطيع المحتجون البقاء في ميدان التحرير يرددون هتافات لا تجد صدى لدى مسؤولي النظام، بل على العكس تواجه بتدابير عنيفة كما حدث يوم الأربعاء الماضي وحتى صباح أمس السبت، حيث صحوا على أصوات الرصاص المنطلق من أسطح البنايات المطلة على ميدان التحرير، وتقول الأرقام التي نشرتها منظمة العفو الدولية إن عدد القتلى قد قارب أو تجاوز الثلاثمائة قتيل وآلاف الجرحى منذ انطلاق الانتفاضة في 25 يناير الماضي. نعم، صحت مصر بعد «ليلة الرحيل» ولم يرحل الرئيس مبارك ولا نظامه كما طالب المتظاهرون، مثلما لم ترحل الأزمة وهي لا تزال تنتظر الفرج والمخرج الذي لم تتبلور ملامحه بعد.. وربنا يحفظ أرض الكنانة وشعبها المبدع الخلاق المغلوب على أمره.