نكتب صباح الجمعة وقبل الصلاة، ولا نعرف مآلات المشهد السياسي المصري بعدها، فهو مشهد مشحون بالغضب والتوتر العالي الذي خلّفه خطاب الرئيس مبارك، ومن ثم خطاب نائبه عمر سليمان الليلة الماضية، اللذان جاءا مخالفان ومتجاهلان التوقعات في ميدان التحرير وفي كل مكان في مصر وخارجها، من الشرق الأوسط إلى الولاياتالمتحدة وأوربا. وثمة مؤشرات عديدة غذت مثل هذه التوقعات المنتظرة «إعلان الرحيل»، رحيل الرئيس مبارك كمدخل لبداية انهيار النظام القديم، وليس إصلاحه أو ترميمه، بعدد من الإجراءات الدستورية والسياسية والأحكام القضائية على من أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية وولغوا في دماء المحتجين. من بين تلك المؤشرات التي غذت توقع الرحيل، اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية برئاسة وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المشير محمد حسين طنطاوي في غياب القائد الأعلى للقوات المسلحة حسني مبارك، والتصريحات التي صدرت عن كل من رئيس الوزراء الفريق أحمد شفيق ولم تستبعد أن يلجأ مبارك لخيار الرحيل، كذلك ومن الأمين العام الجديد للحزب «الوطني» الحاكم حسام بدرواي الذي فضل صراحة أن يلجأ الرئيس لذلك الخيار، ثم «البيان الأول» الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي أبدى تعاطفاً مع مطالب المحتجين التي وصفها ب«المشروعة» وأبدى حرصاً على حمايتها، مثلما أبدى اهتمامه بحماية أمن الوطن وسلامته. أهم ما في خطاب مبارك الثالث، الذي فجّر الغضب وأشعل الاحتجاجات حتى قبل أن يفرغ من إلقائه، هو حديثه «الملتبس» حول نقل صلاحياته لنائبه عمر سليمان، ولكن «في إطار الدستور»، والجميع يعلم أن الدستور الحالي لا يمكّن الرئيس ولا حتى الهيئة التشريعية من نقل تلك الصلاحيات إلى أيّ كان ومن كان، الأمر الذي سيجعل من دور نائب الرئيس بالرغم من نقل «الصلاحيات المزعوم» ليس أكثر من «دور تنفيذي» لتوجيهات الرئيس، وما يعزز هذا الاعتقاد هو أن الرئيس قد أبلغ الشعب المصري في خطابه أنه طلب من مجلس الشعب (رسمياً) تعديل خمس من مواد الدستور وإلغاء سادسة، هي المواد (76 و77) المتعلقتان بمدة الرئاسة وكيفية الترشيح، والمادة (88) التي تؤسس للإشراف القضائي على الانتخابات، والمادة (93) المتعلقة بالطعون الانتخابية، بالإضافة للمادة (179) المتصلة بكيفية إعلان الطواريء. فطلب الرئيس من مجلس الشعب بتعديل تلك المواد - على أهميته - وحديثه عن استعداده للنظر في أي مواد أخرى ترى اللجنة التي شكّلها من بعض القضاة وخبراء القانون الدستوري ضرورة تعديلها أو إضافتها أو حذفها يعطي إيحاءً بالغ الدلالة، بأن الرئيس لا يزال يحتفظ بسلطات الرئاسة بقضها وقضيضها، وأن حديثه عن «تفويض الصلاحيات» لا يعني بحال من الأحوال تخليه أو هجره لمقعده في سدة الرئاسة حتى نهاية ولايته في سبتمبر القادم، وأكد ذلك صراحة أكثر من مرة بكلامه حول تحمل المسؤولية والبر بالقسم وتسليم الأمانة والراية لمن ينتخبه الشعب. وبرغم الغضب العارم الذي أنتجه خطاب الرئيس، وخطاب نائبه الذي جاء بمثابة تأكيد وتعهد بالاستمرار في التفاهم والتأمين على المطالب المشروعة للشعب الثائر، والدعوة للمتظاهرين للعودة إلى بيوتهم وأعمالهم، إلا أن الخطاب لم يمر دون أن يترك بعض الآثار الإيجابية في أوساط بعض الشباب المنتفض، فقد سمعنا وائل غنيم «مدير غوغل»، الذي تعرض للاعتقال على مدى اثني عشر يوماً منذ اليوم الثاني للانتفاضة، يعبّر عن قناعته الشخصية بأهمية المكاسب والإصلاحات التي انطوى عليها خطاب الرئيس ومجمل الحراك الرسمي، بحيث لم تعد هناك - في نظره - إمكانية للتراجع، ولكنه مع ذلك أكد على أنه لا يزال ينتظر بلورة وجهة نظر عامة في أوساط الشباب ومع من وصفهم ب«الحكماء المصريين» حول ما يجب فعله، بينما عبّر زميله د. مصطفى النجار عن إحساسه بأن الخطاب جاء أقل من سقف التوقعات، في ميدان التحرير وفي كل مكان، التي تطالب برحيل الرئيس وسقوط النظام، وبرغم تقديره لأهمية الإصلاحات التي حملها الخطاب، لكنه رأى أنه جاء متأخراً وبعد فوات الآوان، وأنه لو جاء في وقته المناسب لكان وقعه أفضل ولأعاد بعض الثقة المفقودة بين الشارع والنظام، خصوصاً بعد الاعتداءات والهجمات التي تعرض لها المحتجون في أوقات سابقة (الأربعاء المشؤومة) بالخيل والجمال والحمير والرصاص الحي. خطاب مبارك الثالث لم يكن وقعه أفضل حالاً في العواصم التي تراقب التطورات التي تشهدها مصر، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما صرّح بأن التغييرات التي أعلنت في مصر لا ترسم طريقاً واضحاً لانتقال السلطة ولم تشر إلى ما إذا كان هذا الانتقال سيكون فورياً أم سيتأخر، بينما قال الرئيس الفرنسي: إن التغيير في مصر لا مناص منه، وتمنى أن تأخذ الديمقراطية وقتها لتؤسس نفسها، ونبّه لإمكانية وقوع البلاد تحت ديكتاتورية أخرى، ربما في إشارة لصعود حركة الأخوان المسلمين. إجمالاً، بدا المشهد المصري حتى الآن غامضاً لجهة الصراع بين من ينادون ب«الشرعية الثورية» وأولئك المطالبين «بالإصلاح الدستوري»، وهو صراع لم يحسم على الأرض، ولا تبدو في الأفق علامات بارزة على إمكانية حسم فوري له، فلا الجماهير الثائرة والغاضبة تملك أكثر من حناجرها التي تطلق شعارات التغيير، ولا هي قادرة على فرز قيادة بالكفاءة التي يتطلبها حرج الموقف، بينما النظام يتحرك مستنداً إلى القوة العسكرية التي بين يديه، برغم المؤشرات الغامضة عن صراع بين مؤسسة الرئاسة من جهة والعسكر من جهة أخري، وهي مؤشرات لا ترقى لأن يؤسس عليها أي مراقب حكماً قاطعاً بأن الجيش سينحاز لمطالب الشعب ويطلب من مبارك ونظامه الرحيل، خصوصاً عندما نتذكر أن الجيش هو الذي أسس لهذا النظام وحماه، كما حمى مصر منذ قيام الثورة في 23 يوليو 1952، وجاء كل رؤساء مصر وأركان النظام من صلبه وليس من أية جهة أخرى. فبالنظر لهذا الواقع المعقد فإن الوقت مازال مبكراً - برغم دخول الاحتجاجات أسبوعها الرابع - للتنبوء بما ستؤول إليه الثورة الشعبية العارمة في مصر، وإن كان من المهم التنبيه إلى اتساع دائرة الاحتجاجات لتشمل الاتحادات والنقابات المهنية والفئوية الأخرى كالأطباء والمحامين والصحافيين والفنانين والكُتاب والعمال والموظفين، الأمر الذي قد يمهد ل«عصيان مدني» ربما وضع خاتمة للمشهد برمته. خارج النص وكعادة التحولات التاريخية فإن عنصر المفاجأة دائماً ما يكون حاضراً ولابد ان الجميع قد فوجئوا عند السادسة مساء أمس بتوقيت القاهرة بخروج نائب الرئيس عمر سليمان ليعلن بنفسه تخلي الرئيس مبارك عن منصب رئاسة الجمهورية والاستقالة وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بادارة شؤون البلاد. وهو بيان لا يخلو في حد ذاته من عنصر الغموض الذي اكتنف المشهد السياسي المصري منذ اشتعال الثورة ويفتح الأفق في العديد من الاسئلة اولها مصير الحكومة برئاسة الفريق احمد شفيق ومصير عمر سليمان نفسه، وهل تعني استقالة الرئيس اقالة نائبه بشكل آلي أو اوتومتيكي بعد أن اصبحت صلاحيات السيادة موكولة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يرأسه وزير الدفاع القائد العام محمد حسين طنطاوي الذي سيصبح بحكم هذا التكليف رأس الدولة، والمرجع الأعلى للسلطات الدستورية. الراجح أن دور عمر سليمان كنائب للرئيس قد انتهى، مثل ما هو دور شفيق وحكومته، أما كيف سيصرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيسه طنطاوي بالسلطات التي اصبحت بين يديه، فهو متروك للساعات القادمة لنرى إذا ما كان سيسير باتجاه التحول الديمقراطي الكامل أم يؤثر بنوع من الدكتاتورية الجديدة.