لا أدري إن كان لكلمة تهميش أصل في اللغة العربية، فالكمة غير موجودة في معجم لسان العرب، ولا يمكن إجراء تصريفات الميزان الصرفي الأربعة المعروفة عليها لأجل معرفة مصدرها، والتي تجري على الأوزان- فعل، يفعل، فعلاً، فهو فاعل، أي الماضي والحاضر والمستقبل والمصدر، ثم اسم الفاعل، فإذا قلنا همش، يهمش، مهمشاً فهو هامش نجد أن هامشاً هنا اسم مكان، وإن جرت على صيغة الفاعل، وكذلك كلمة همش التي هي من المفروض مصدر أو أصل للكلمة نجد لا معنى لها، وإن كلمة تهميش أكثر منها دلالة، وإن لم تجر على وزن الفعل، ومما يزيد من الشكوك حول أصل الكلمة معناها اللغوي، فهي تعني ذلك الإطار المعد للكتابة داخل الورقة وما عداه يسمى الهامش، فعلى الرغم من أن الكتابة العربية من أقدم الكتابات إلا أنه من المسلم به أن العرب على العموم كانوا قوماً أميين لا يقرأون ولا يكتبون، فلم تكن معينات الكتابة وأدواتها من مقتنياتهم أو من مفردات ثقافتهم، والأرجح أن الكلمة أجنبية عربت أجريت عليها تصريفات الميزان الصرفي حسب ما تحتمل، فجاء المصدر على وزن تفعيل وجاء الفاعل يحمل معنى المكان، وهناك سبب ثالث أكثر إثارة للشك وهو عدم استخدام المترادفة العربية حاشية.حول الاصرار على استخدام هذه الكلمة بالذات رغم أن (حاشية وهامش) كلاهما يفيد معنى الطرفية ولكن الفرق في الاستخدام، في حين تستخدم الحاشية في الكتب استخداماً مفيداً لتدعيم الفكرة الأساسية، نجد الهامش يستخدم في دفاتر الكتابة استخداماً ثانوياً ومهملاً كاجراء التضريبات الحسابية أو اختيار صلاحية القلم ومدى جاهزيته للكتابة. من المؤكد أن الحركة الشعبية استخدمت كلمة تهميش استخداماً سياسياً كمترادفة للكلمة الانجليزية Merg ingوهي صفة مشتقة من الاسم Margin وتعني الهامش، وهي كل المساحة خارج الإطار الأحمر المعد للكتابة في الدفتر والكراس كما ذكرنا، وقد عنت الحركة الشعبية بهذه الكلمة المبعد أو المهمل أو هكذا يفهم من الصياغة، لأن استخدام الكلمة جرى استعارياً أو تشبيهاً..mitaph وذلك لوصف مناطق بعينها في السودان، وهي المناطق الواقعة على أطراف السودان أو هي بعيدة من المركز وتعاني التخلف، وذلك رغم أن الانجليزية وهي لغة اتفاقية نيفاشا لغة سهلة ومبسطة في الأساس لا تعرف الاستعارات والتعقيدات البلاغية إلا في حدود لغة الأدب أو الاتفاقيات السياسية، فمن المفترض أن تكون ذات لغة دقيقة ومحدودة تنأى عن التشبيهات، بل لابد أن تسمى الأسماء بأسمائها الصحيحة، فماذا إذاً هذا الاستخدام البلاغي المعقد وغير الدقيق في وصف الأشياء؟ من الواضح أن هذا الاستخدام جاء كرمزية للإبعاد والتجاهل السياسي وهو في الحقيقة ليس ابعاداً ولا تجاهلاً سياسياً، وإنما بعد مسافي جغرافي، ولما كان ذلك البعد المسافي والجغرافي عن مركز الاشعاع الحضاري في الوسط نتج عنه تخلف أو هو أحد أسباب التخلف، فقد أرادت الحركة لهذا الاستخدام المجازي للكلمة إرجاع أسباب التخلف جميعها لإنسان ذلك المركز وليس لضعف التأثير الحضاري المنبعث عن المركز إلى تلك المناطق، والذي يتناسب قوة وضعفاً مع البعد المسافي قرباً وبعداً بطريقة طردية كما هو واقع الحال، بل أرادت الحركة أن توحي للآخرين أن التخلف ناجم عن الإهمال المتعمد من ذلك المركز أو هو إهمال بحسن نية على أحسن الافتراضات على رأي الحكمة القائلة البعيدة عن العين بعيد عن القلب. قلنا إن الحركة الشعبية استخدمت كلمة تهميش أو مهمش استخداماً مجازياً، فقد شبهت السودان بورقة للكتابة وشبهت أواسط السودان أو المركز بذلك الإطار المعد للكتابة، وشبهت الأطراف بالهامش، متخذة من الاهتمام الذي ينصب على الكتابة داخل ذلك الإطار، ووضوح فكرتها وجمال خطها وجهاً للشبه بينها وبين الأهتمام الذي توليه الحكومات لتلك المناطق حسب زعمها كما اتخذت وجهاً آخر للشبه بين الهامش وما تجري فيه من استخدامات جانبية تنم على عدم الاهتمام وما تعانيه تلك المناطق الطرفية من تخلف وعدم اكتراث من الحكومات حسب زعمها. لعلنا بعد ذلك نلاحظ أن كلمة مهمش زجت زجاً في نص الاتفاقية كمرادف لكلمة marginzed في الانجليزية رغم أن الكلمة ليست من أصل العربية، وكان الأولى استخدام الأصل العربي وهو كلمة حاشية، ولكنها استبعدت لأنها لا تؤدي الغرض ولا تجعل من التخلف جريمة بفعل فاعل، لذلك جاءت الاتفاقية تحمل معاني غامضة وجائرة وهي عبارة عن قنابل موقوتة تجعل من الحكومة ومن شعب الشمال غرضاً للابتزاز السياسي، كان من المفترض استخدام كلمة طرفية بدلاً عن هامش وتخلف بدلاً عن تهميش، وذلك اتباعاً للدقة والتحديد المتبع في صياغة الاتفاقيات السياسية، لقد اظهرت الحركة ميكافيلية وانتهازية منقطعة النظير فقد أرادت تجميل صورتها بنفي التخلف عن نفسها وعن مناطقها من ناحية، ومن الناحية الأخرى أرادت إقامة الإدعاء على الحكومة بل على كل شعب الشمال بغية تحقيق أكبر قدر من المكاسب عن طريق الابتزاز، لقد أرادت الحركة أن تبيع الكيكة وأن تحتفظ بها في نفس الوقت لتأكلها، أما الحكومة التي ربما خضعت لأنواع الضغوطات ما كان لها أن تمرر ذلك لو أنها أحسنت قراءة فكر الحركة، وأدركت ابعاده التآمرية، ولكن للأسف أن الحكومة لا تعرف الجنوب وليس لها مركز دراسات متخصص يقدم لها المشورة، فهي تعامل حملة السلاح كمواطنين وليس اعداء للبلاد، وقد رأينا كيف فتحت دعاوى التهميش شهية الحركات المسلحة في الشرق وفي دارفور للقيام بحروبات مطالبية، وبنفس دعاوي التهميش فهل كانت الحركة تقدم الأنموذج الذي يجعل كل أطراف السودان تنفجر حروبات الإجابة بالطبع نعم.. الم تحدد الحركة مناطق التهميش بتلك المناطق الطرفية المتخلفة ذات الأثنيات الأفريقية، وفي نفس الوقت استبعدت المناطق ذات الاثنيات العربية في شمال كردفان والنيل الأبيض، رغم أنها أكثر تخلفاً وأقل موارد.لكن على الحكومة الاستفادة من دروس وعبر الماضي، وعليها أن تعامل كل من يحمل السلاح كعدو ليس كمواطن، وألاَّ تستهين بشأنهم لوقوف قوى عالمية واستخباراتية وراءهم تربط أجندتها بأجندتهم، لذلك يجب معرفة أبعاد أهدافهم التآمرية، وتفويت الفرصة عليهم لتحقيق ما فشلت في تحقيقه بالبندقية، فالحكومة مازال أمامها مفاوضة حركات دارفور وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، خاصة وأن مشروع السودان الجديد وتحرير السودان من عروبته وإسلامه مازال قائماً، وقد أخذ بالوسائل السياسية بدلاً من الوسائل العسكرية أو أجل الوسائل العسكرية إلى حين.