لم نتعلم كيف تسقط.. أو ترحل.. أو تهوي إلى سفوح الجبال وما هي آلية وعوامل التآكل التي تنخر في عظم الأنظمة حتى يشيعها الناس إلى مقابر بل مزابل التاريخ.. لم نتعلم هذه الدروس من مصر وقبلها تونس وبعدهما كل طاغية ظالم جبار عنيد.. فقد كانت كل هذه الدروس مدونة في سفر الإنسانية منذ اليزيد بن معاوية وحتى مبارك.. لم ينهزم تاريخ هذه الأسباب مرة واحدة عبر القرون.. فقد دفنت هذه العوامل.. حكم شاوشيسكو.. ثم أهالت التراب على حكم طاغية الفلبين.. ثم فرّ حاكم طهران الشاه الطريد.. والقائمة المدحورة أو المقبورة أو الهاربة.. تترى.. منهم من قضى نحبه و«شاف» بعينيه مصيره ومنهم من ينتظر.. ونورد في اختصار شديد الأسباب والتي أولها الفساد.. ثم زواج السلطة والمال ومصاهرة الحكام.. في زواج مصلحة ولكنه كاثوليكي لا يعرف الطلاق.. إلا بعد.. إطلاق صافرة النهاية والتي هي أبداً في «أفواه» الجماهير.. مصاهرة الحكام مع رجال المال والاقتصاد.. أو اللصوص.. ولكن في ثياب الفخامة والوسامة.. والهبر واستغلال الشعب تحت بصر ومباركة الحكام.. ثم أبواق النفاق.. ومكبرات صوت الهتيفة.. وتصوير كاميرات الإفك.. من الخيال.. بأن الشعب يعيش أزهى وأحلى وأنضر أيامه.. ثم حواجز وجدران.. قصر الحاكم التي لا ينفذ منها حتى «همسة» واحدة من أنين الشعب.. ولا تتسرب من بين شقوقها دمعة واحدة أو نقطة دم واحدة من نزيف ورعاف القهر وسياط البطش.. التي تلهب ظهور الشعب.. ثم المساحة الشاسعة التي تفصل بين الرعية والحاكم.. أو الحكام.. هي مسافة بين الترف والقرف.. مساحة بين نعيم ومخدات طرب.. وكفوف نعمة وفخامة.. التي يتقلب عليها الحكام.. والجوع.. والفقر والمسغبة وشظف العيش والحياة المرة التي يصطلي بجحيم نيرانها بقية الأمة.. الآن علمتم.. وحتماً نعلم.. ويقيناً تعلم الحكومة أسباب فناء الأنظمة.. وبما اننا نتحدث عن السودان.. خوفاً وإشفاقاً عليه.. نكون قد وصلنا إلى تشخيص المرض الذي يفتك بالأنظمة ويفضي إلى تهاوي العروش.. فدعونا نذهب إلى معمل صور الأشعة.. لنرى صورة الوطن.. وهل يشكو علة من الأمراض التي أوضحنا وفصلنا.. هنا دعونا نذهب إلى القاهرة.. إلى مصر.. لأن تجربتها ما زالت حية ملتهبة تتألق جذوتها في الأفق.. ولأنها جارة تاريخية وجغرافية.. ولأنها لو عطست لأصاب الزكام السودان.. ونأخذ العلة الأولى.. وهل هناك.. بل هنا في السودان.. فساد.. «يعني» هل هناك زواج قد تمّ بين الحكام وأصحاب المال.. أو حتى هل هناك دستوريون أو وزراء أو ولاة.. هم بجانب وظائفهم الدستورية.. هم أيضاً رجال أعمال.. والإجابة نعم.. ونقولها نعم وألف نعم.. هناك شواهد.. وطبعاً ليس في أيدينا دليل نقدمه للسادة حكماء الإنقاذ.. ولكنها صرخة.. أو نصيحة يجب أن يأخذها الذين يهمهم أمر الوطن قبل أمر الإنقاذ.. مأخذ الجد.. أو على الأقل عليهم بالتحري والترصد.. والتقصي.. حتى يستبين الخيط الأبيض من الأسود.. ونذهب إلى الإعلام.. إبان أزمة مبارك.. وكيف كان الإعلام.. المتمثل في التلفزيون والإذاعة والصحف.. كيف كان في واد.. وكل جماهير الشعب في وادٍ آخر.. هو ميدان التحرير.. وشوارع السويس وساحات المنصورة وأسواق وميادين الأسكندرية.. ونلتفت إلى صورة الأشعة.. الخاصة بالسودان.. نذهب إلى التلفزيون.. ذاك المسكين الذي من فرط فزعه.. وخوفه على النظام.. نظام الإنقاذ.. أسدل ستائر كثيفة على فتحات كاميراته بل أدارها.. في كل أنحاء الدنيا.. ما عدا مصر.. تعمد عامداً أن يتجاهل تلك الثورة.. وكأنها لم تكن.. وهي التي أجبرت كل إعلام الكوكب من سقف العالم في النرويج.. وحتى قاع الدنيا في «الكيب» من بكين وحتى الاكوادور أجبرتهم أن يرحلوا بكاميراتهم رغم الخطر.. إلى قلب معركة الشعب مع نظام مبارك المندحر.. أما الإذاعة.. فهي..لم تكف ولمدة عشرين سنة وتزيد عن الحديث عن الرخاء.. والمشاريع.. والنفرة الخضراء.. وتلك الملايين من الأفدنة والمزروعة وعداً وقمحاً وتمني.. حتى يخال المرء إن هذه الإذاعة.. تتحدث عن إمارة موناكو.. أو أوسلو.. أو كل دول اسكندنيفيا.. تلك التي ينتحر مواطنوها من ملل الترف والحياة الأسطورية الناعمة والمرفهة التي يتمرغ في نعيمها شعب سقف العالم.. وبالله عليكم.. كيف تسير قافلة النظام أي نظام.. في حلوكة الليل ووعورة الطريق.. إذا كانت عيونه المفترضة مغمضة.. لا ترى إلا ما يسعد السلطان أو يفرح النظام؟؟ هذا هو السلوك.. الذي يقود النظام.. مهما كان راسخاً إلى الهاوية بل إلى حفرة النار المشتعلة بالجحيم.. غداً نواصل..