اذا كانت الوثيقة الدستورية هي مجموعة القواعد القانونية التي تنظم اسس الدولة وتحدد تكوينها لتشمل شكل الدولة ونظام الحكم فيها وتنظيم السلطات العليا او الحاكمة في الدولة. كما تشمل تنظيم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والادارية واخيراً تنظيم الاحكام المتعلقة بمكونات المجتمع التي تتكون منها الدولة، ما دامت الدولة لا توجد بغير وجود الافراد والجماعات الذين يكونون شعبها، كما تصدر الوثيقة مقررةً للحرية، ومؤكدة لحقوق الانسان كما تعارف عليها الفكر الانساني وجاءت في المواثيق الدولية وملحقاتها وبمعنى بسيط هي معادلة التعايش السلمي بين السلطة والحرية. ومن هنا تكتسب الوثيقة سموها الدستوري على سائر القوانين الوضعية المكملة لها او تلك العادية، كما تظهر اهميتها السياسية من حيث انها تقود مباشرة الى الديموقراطية الحقيقية. بحلول التاسع من يوليو 2011 ولو بعد حين، تجد الحكومة نفسها مسؤولة امام الشعب السوداني عن بيان الاستراتيجية التي ستواجه بها العديد من المسائل القانونية والسياسية غير تلك المتعلقة بقيام دولة الجنوب ومشكلة دارفور ويهمنا هنا الوضع الدستوري للبلاد. ومن ناحية اخرى تشعر بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها، لوجود قوى بجانبها تقاسمها هذه المسؤولية وتعمل جاهدة وفق دوافعها لاسقاطها، واخرى تسعى في حذر لتشاطرها الرأي في ادارة الشأن الوطني وثالثة متوالية تشاركها في الحكم وفقاً لأوزانها. واخرين من دون هؤلاء واولئك يتجاوزونهم عدداً ويفوقونهم تنوعاً تمتليء بهم الساحات الاجتماعية والثقافية والعلمية يتطلعون في امل ميت على النفس ليجدوا انفسهم في دستور ديموقراطي دائم يمكنهم من العطاء والبذل خدمة لبلادهم في شتى مناحي الحياة وكافة المجالات العامة. ان الدستور الانتقالي لسنة 2005 في حقيقته نسخة ثالثة مرقمة تنازلياً ومأخوذة من اتفاقية السلام الشامل ودستور 1998 جاء وليد اتفاقية «بضمانات دولية» ولم يصدر من سلطة تأسيسية اصلية منتخبة وانما صدر من لجنة حكومية جاءت بالتعيين «المفوضية القومية للمراجعة الدستورية»، كما انه لم ينل استفتاءاً تأسيسياً دستورياً وانما تمت اجازته من المجلس الوطني «الذي جاء بالتعيين» بالاضافة الى انه اتفاقية بين طرفين ومن المعلوم ان الاتفاقيات ملزمة لطرفيها وانها تصدر بارادة منفردة ومن المعلوم قانوناً ان التصرف بالارادة المنفردة يمكن سحبه او استرداده. ومن ثم دفع به طرفا الاتفاقية منحة منهما للشعب السوداني، ولا يسعفه كونه مستمداً من دستور 1998 اذ ان هذا الاخير ايضاً وضع بواسطة لجنة حكومية ونال استفتاءاً سياسياً لا دستورياً مما يمكن القول معه انه دستور صدر بطريقة غير ديموقراطية ولا يقدح في ذلك قبول الشعب السوداني به او رضاء بعض القوى السياسية. وانما قبل باعتباره اوقف نزيف الدم وقاد الى الاستقرار والتنمية وفي تقديرنا انه انجز مهمته. ان اهم مشكلة على الحكومة حلها هي مشكلة الدستور الديموقراطي الدائم الذي يتوق الشعب للحصول عليه فحكومة يسندها دستور، ودستور يؤيده شعب، وشعب متمسك بوحدته الوطنية، ورأي عام مستنير ومسؤول ضمانة كبرى لرضاء الشعب واستقرار البلاد. لا شك ان الشعب هو وحده صاحب الحق في ممارسة تنظيم السيادة عن طريق الوثيقة الدستورية، الا ان الصعوبات العملية تحول دون ان يجتمع الشعب بأسره لوضع هذه الوثيقة. ولذلك كان انتخاب الشعب ممثلين منه، يكونون جمعية تأسيسية ذات وكالة محدودة في وضع دستور الدولة باسمه ونيابة عنه، وان خير وسيلة هي انتخاب جمعية تأسيسية وهي الطريقة الديموقراطية الاولى التي تضمن تطبيق مبدأ السيادة الشعبية. ومقتضى هذا الاسلوب في وضع الوثيقة الدستورية ان الشعب ينتخب عنه جمعية تأسيسية تكون مهمتها وضع الدستور، بحيث يعد الدستور الذي يصدر عنها وكأنه صادر عن الشعب بأسره. وعلى ذلك يكتمل الدستور ويصبح نافذاً بمجرد وضعه بواسطة تلك الجمعية ما دام الشعب قد فوضها في ذلك، مما لا يتطلب بعد ذلك عرض الوثيقة الدستورية على الشعب او استفتاءه فيها. اذ انه بمجرد اقرار الجمعية للوثيقة الدستورية في صيغتها النهائية تصبح هذه الوثيقة بذاتها نافذة ودون ان يتوقف ذلك على اقرار من احد. ونتيجة لذلك يتعين ان تكون هذه الجمعية منتخبة من الشعب مباشرة للقيام بهذا الغرض وتنتهي مهمتها بعد انجاز الوثيقة الدستورية. فلا يجوز -طبقاً لهذه الطريقة- لمجلس نيابي عادي «المجلس الوطني الحالي» ان يحيل نفسه الى جمعية تأسيسية ثم يتولى وضع دستور البلاد، لان السلطة التشريعية العادية ليست هي السلطة التأسيسية الاصلية، بل هي سلطة منشأة لتمارس وظيفة التشريع. واذا كان الامر كذلك فلا يجوز ان يضع الدستور عدد من الاشخاص المعينين تعييناً من قبل اي سلطة، حتى وان ادعت هذه السلطة انها تمثل الشعب. وقد يفضل الشعب ان يشترك بنفسه في مباشرة السلطة التأسيسية الاصلية، وهنا يجب استخدام اسلوب الاستفتاء الدستوري او كما يسميه البعض -الاستفتاء التأسيسي- كطريقة ديموقراطية ثانية في وضع الوثيقة وسواء قام بوضع مشروع الوثيقة الدستورية جمعية تأسيسية او لجنة حكومية فنية، فإنه يشترط لصدور الوثيقة الدستورية ونفاذها وجوب عرضها للاستفتاء الدستوري وموافقة الشعب عليها. وبالتالي فإن مشروع الوثيقة الدستورية الذي يوضع بإحدى الطريقتين السابقتين لا يتخذ قوته القانونية الالزامية الا بموافقة الشعب عليه عن طريق الاستفتاء الدستوري، بحيث اذا لم يوافق عليه الشعب اعتبر كأن لم يكن، حتى ولو كان قد وضع بواسطة جمعية تأسيسية. واذا كان الاستفتاء الدستوري يقتضي ان يكون للشعب الكلمة الاخيرة في المسائل الدستورية، فإن السلطات الحاكمة قد تلجأ اليه احياناً في ظروف تجعل موافقة الشعب مجرد اجراء شكلي يغطي به النظام القائم فرديته ودكتاتوريته، وهذا ما عرف اصطلاحاً بالاستفتاء السياسي تمييزاً له عن الاستفتاء الدستوري او التأسيسي، فالاستفتاء السياسي قد يستخدم لاستفتاء الشعب بصورة تجعل من المحتم على الشعب ان يقر بما يستفتى فيه حيث تظهر السيادة الشعبية في شكل سلبي يتمثل في قبول الاوضاع الدستورية دون تقريرها «تذكرون، الاستفتاء الذي اتبع في دستور 1998» وبذلك يختلف هذا النوع من الاستفتاء عن الاستفتاء الدستوري الذي يتم بصورة تعطي الحرية الكاملة للشعب في اقرار الوثيقة الدستورية او عدم اقرارها. ان السيد رئيس الجمهورية والسادة الولاة منتخبون من الشعب مباشرةً في انتخابات مهما قيل حولها فهي واقع قائم ونالت الاعتراف الاقليمي والدولي ويمكن للسيد رئيس الجمهورية ان يصدر المراسيم الجمهورية المؤقتة لتسيير دفة الحكم باعتباره رئيساً للسلطة التنفيذية وذلك لحين انتخاب الجمعية التأسيسية وصدور وانفاذ الدستور الديموقراطي الدائم وقيام برلمان جديد، كما يمكن للمجلس الوطني الحالي تفويضه سلطة المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية. ان ما ذكرناه بشأن الطرق الديموقراطية في اصدار الوثيقة الدستورية يأتي من باب الشكل المتطلب دستورياً، اما من حيث موضوعات الوثيقة ذاتها نرى الاستفادة من كل التجارب الدستورية التي مرت بالبلاد من حيث شكل الدولة موحدة ام اتحادية، رئاسية ام برلمانية، استقلال القضاء هل يكون اتحادياً ام ولائياً في سلطته الاعلى، مراجعة تجربة الحكم الولائي والمحلي والعمل على ايجاد موارد مالية حقيقية للحكم المحلي والقسمة العادلة للثروة القومية وما الى ذلك.واخيراً واياً كانت النصوص التي تتضمنها الوثيقة الدستورية ومهما كان فيها من ضمانات كبيرة من حريات وتحقيق للديموقراطية، فان الديموقراطية تتحقق دائماً بوجود رأي عام ناضج يعمل على حسن تطبيق نصوص الوثيقة اذ ان الرأي العام هو سيد المشرعين جميعاً والمستبد الذي لا يدانيه في السلطة المطلقة مستبد اخر والحقيقة انه يمثل الضمانة النهائية ضد كل استبداد ويعبر عن نفسه بوسائل متعددة وهذه الوسائل نفسها منظور اليها من ناحية اخرى هي المؤثرات الحقيقية والفعلية التي تكونه، فالصحافة وسيلة للتعبير عن الرأي العام ووسيلة للتأثير فيه وتوجيهه ايضاً وكذلك سائر اجهزة الاعلام الاخرى بالاضافة الى القرية الكونية التي نعيش فيها. وختاماً علينا ان نتدبر العظات ونتذكر العبر وما اقل الاعتبار.الدستورية ولا شك ان هذه الطريقة تمثل الاسلوب الامثل في ممارسة الديموقراطية، حيث يباشر الشعب سلطاته مباشرة دون ادنى وساطة وتظهر بذلك ارادة الشعب مباشرةً.والتمتع بنتائجه الحقيقية وثمراته الطيبة، واكبر عامل مؤثر لحل هذه المشكلة هو اتحاد الشعب السوداني بلا استثناء او اقصاء. وعلى الحكومة ان تعقد العزم للوصول الى المطلوب منها مهما كلفها ذلك من المصاعب والتنازلات.