دائماً ما تكتشف الشعوب متأخرة جداً أنها أقوى من حكامها وأبقى!!.. وإلا لما لبثوا في العذاب المهين.. فتجدهم يتحدثون عن بطش النظام وزبانيته وزنازينه وأغلاله ووسائل تعذيبه وفرائصهم ترتعد خوفاً وفرقاً دون أن يحدثوا أنفسهم بمقاومة الظلم والجبروت والوقوف في وجه الحكام.. ولأن الحاكم بشر يأكل كما يأكلون.. ويشرب كما يشربون.. وينام كما ينامون.. فلا يستطيع الإحاطة بكل صغيرة وكبيرة أو نجوى اثنين الله ثالثهما.. فإن الحاكم يعمد إلى أجهزة أمنه ويعهد إليها بإحصاء الأنفاس ويطلق يدها في أبناء شعبه لترفع إليه «التقارير» صباح مساء حتى يقر في روعه أنه بكل شيء محيط!.. وما أن تطمئن أجهزة الأمن بأنها حازت على ثقة الحاكم حتى تتجاوز حدودها وتُجهد أفرادها في سبيل إرضاء الحاكم.. فتعيث في الأرض فساداً، وتضيق على أصحاب الرأي حتى وإن كانوا من المصلحين، فتُبدد فرص الحاكم في البقاء راضياً مرضياً وتتنامى الثورة رويداً رويداً حتى تنفجر على حين غرة، فيلتفت الحاكم فلا يجد ناصحاً أميناً ولا صديقاً حميماً فينادي زبانيته اقتلوا هذه الجرذان وطاردوهم بيتاً بيتاً.. وحارة حارة.. وداراً داراً.. وزنقة زنقة! والزنقة من الزناق.. وهو حبلٌ تحت حنك البعير يجذب به فيزنقه زنقاً.. قال الشاعر: فإن يظهر حديثك يؤت عدواً برأسك في زناق أو عران الزناق تحت الحنك.. والعران ما كان في ثقب في الأنف.. قال مجاهد في تفسير قوله تعالى «... لأحتنكن ذريته إلا قليلاً» قال شبه الزناق.. وفي حديث أبي هريرة: قال المزنوق المائل شقه لا يذكر الله.. وفي العامية السودانية.. المزنوق المأسور بالبول.. والزنقة التي عناها القذافي المزنوق.. هي السكة الضيقة أو الميل في جدار أو ناحية أو دار أو عرقوب في وادٍ.. ويقال أزنّق أو زنق إذا ضيّق الرجل على عياله فقراً أو بخلاً.. كان لعامر بن الطفيل فرساً اسمه «المزنوق» قال فيه: وقد علم المزنوق أني أَكُرُّهُü على جمعهم كر المنيح المشهر والقذافي يطلق آخر سهامه في مواجهة شعبه الذي زعم أنه أعطاه السلطة منذ العام 1977.. فما باله لا ينزل عند مطالب الشعب الذي يريد إنشاء النظام في دولة بلا نظام أصلاً!! ولا أعجب إلا من استنكار بعض الليبيين وشكايتهم من أن الكتائب التابعة للقذافي وأسرته تطارد الثوار في منازلهم وتقتادهم إلى المجهول.. وتغتال بعض الجرحى على أسرة المستشفيات.. وتقدم المكافآت والرشاوي لمن يقدم أي معلومات عن الثوار.. ووجه العجب عندي يأتي من كون أن القذافي قد أصدر أوامره لزبانيته بمطاردة الثوار «دار دار وزنقة زنقة وفرد فرد».. وعلى رؤوس الأشهاد قبل أن يعود فيقول «لم نبدأ الحرب عليهم بعد».. ثم يقول باستباحة دماء المعارضين وجواز قتلهم.. وتقول الأنباء بأنهم أي عائلة القذافي.. يستعينون بخبرات صهيونية ومرتزقة أجانب لقتل أبناء شعبهم بالطائرات والمدفعيات والتفجيرات والإجهاز على الجرحى واختطاف «الجثامين» لإخفاء الجرائم.. وكل هذا لا يُجدي فتيلاً.. فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.. ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين. لقد أحتاج الشعب الليبي لأكثر من أربعة عقود من الانتظار «كانت ضرورية»! لتمكين الممرضة صفية فركاش البرعصي من جمع واكتناز أكثر من عشرين طناً من سبائك الذهب الخالص.. وصفية فركاش فركشت أموال الشعب الليبي بعشرات المليارات هي وأبناؤها سيف الإسلام، الساعدي، حنيبعل، المعتصم، خميس وعائشة.. «فأولاد صفية» يحاربون اليوم أخوالهم البراعصة الذين قادوا الثورة عليهم من مدينة البيضا مسقط رأس والدتهم.. أما محمد القذافي فأمه زوجة القذافي الأولى السيدة فتحية نوري خالد.. فهو يحتكر شركات المياه الغازية وأولها الكاكوكولا وأخواتها.. إضافة لشركات الاتصالات والبريد المركزي.. وجاء للقذافي اليوم الذي لا ينفع معه مال ولا بنون إلا من أتى الشعب بسجل سليم.. فالثورة اندلعت ولن تُوقف زحفها كُتل الحديد.. ولا سلسلة التنازلات التي ستفضي في نهاية الأمر بالحكام إلى مزبلة التاريخ، حيث نيرون وفرعون والأكاسرة والأباطرة والبلاشفة والقذاذفة من أنصار القذافي وليست قبيلته..إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين. ما أكثر الصبر وأقل الاعتبار.. فلا نعرف في تاريخنا الحديث «ديكتاتوراً رشيداً» أكثر من المرحوم الفريق إبراهيم باشا عبود.. فما أن بلغته أصوات المحتجين حتى سارع إلى التنحي عن الحكم وأمر بحل المجلس العسكري العالي الحاكم وبقيّ لمدة قصيرة من الزمن ريثما يسلم جبهة الهيئات مقاليد الحكم حتى لا يترك بلاده تائهة في الفوضى والشقاق.. فقد كان شعاره رحمه الله «احكموا علينا بأعمالنا».. فما أن حكم عليه الشعب.. حتى نزل عند حكمه بلا أي تباطؤ أو لولوة أو ولولة.. وهذا عين ما وعد به السيد رئيس الجمهورية في خطابه لجماهير ولاية نهر النيل عند افتتاحه لعدد من المصانع عندما قال إذا تظاهر الناس ضدنا فسنخرج لهم في الشوارع ليرجمونا بالحجارة.. ولم يقل سنخرج لهم العقارب والدبايب والكتائب.. وأكد على ذات المنحى عند لقائه بالشباب فقال: «نحن مع التغيير.. والتغيير يبدأ من الرئيس».. فأزعج قوله ذاك «قيادات حزبنا».. وبدلاً من العمل والتأكيد على ما قاله السيد الرئيس الذي حملهم على ظهره لأكثر من عقدين.. عملوا على دغمسة هذا الإعلان وأخفته أجهزة إعلامنا مخافة أن يتحول إلى تيار جارف يأتي بالشباب والمجددين السائرين على ذات الطريق الذي أرسته الإنقاذ مع الانفتاح الكامل على كل الفعاليات ونبذ الاستقطاب الحاد والاستفراد بحكم البلاد لحين تسليمها يداً بيد للمسيح عليه السلام الذي سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. إن شبابنا الذين ذادوا عن حياض الدين وبذلوا المهج والأرواح في سبيل الله.. أو الذين صبروا على شظف العيش وقسوة الحياة.. أو الذين ولدوا وهم لا يعرفون لهم رئيساً غير البشير حتى بلغوا مبلغ الرجال.. لجديرون بتولي زمام الأمور في المرحلة القادمة.. مرحلة الجمهورية الثانية.. مثلما قاد شباب الوطن الجمهورية الأولى منذ رفع علم الاستقلال وحتى إعلان الانفصال.. تقول إحدى فقرات الترويج للثورات العربية بقناة الجزيرة في اعتراف مؤثر لأحد التوانسة «هذه فرصتكم أيها الشباب، فقد فعلتم ما لم نفعله نحن.. لأننا هَرِمنا.. هَرِمنا.. من أجل هذه اللحظة التاريخية».. فاللحظة التاريخية قد تراءت أمامكم يا سيدي الرئيس.. بدون زنقة. وهذا هو المفروض