في مقال لي قبل تنحي حسني مبارك أبديت خشيتي من أن يقفز الجيش لتولي زمام الحكم في مصر، حيث ذكرت أن المصريين لم يطرحوا ماذا بعد مبارك، إذ لم نسمع بحكومة ظل.. ولا ترشيحات لسلطة انتقالية من الشخصيات الوطنية من الحكماء والكفاءات في مختلف التخصصات، ورجالات الأحزاب الوطنيين، وممثلي هؤلاء الشباب، ولم تكد تمر أيام على كتابة المقال حتى أوكل الرئيس السابق السلطة وأمر البلاد إلى الجيش.. وقناعتي مثل من يعتقد أن نظام مبارك لم يرحل بعد.. فكثير من رموز نظامه لا يزالون في موقع السلطة وعلى رأسهم رئيس وزرائه.. وحتى رئيس المجلس العسكري الحالي هو أحد أركانه واستدعي من مهمة بامريكا إلى البلاد حين اشتعال الثورة.. على صعيد آخر، رأينا في بداية الثورة شخصيات قفزت إلى الواجهة منهم من قال إنه مفوض، ومنهم من أكد ترشحه أو نفاه في تلك الأيام الباكرة.. ولا ننسى مسارعة إيران القول بإن ما حدث في تونس ومصر (صحوة إسلامية)، ورأينا تقديم بعض الفضائيات لبعض شباب 25 يناير ذاكرة أنه ينتمي إلى جهة حزبية ما.. أنا أعتقد أن كل هذا منافٍ للواقع تماماً.. فهؤلاء الشباب جميعهم عاشوا وعايشوا مادار في مجتمعهم من إرث تاريخي ونضالي وحضاري، بما فيه من مجزات واخفاقات، ومن المعايشة اليومية وما يشوبها من آمال وطموحات ومعاناة وانكسار.. الخ استوعبوا كل ذلك وتفاعلوا معه فكانت المبادرة منهم، وكانت التعبئة عبر ما أتيح لهم وما اتقنوه من تكنولوجيا حديثه.. هذا بالطبع لا يلغي دور من أسهموا في خلق وإرساء ذلك الإرث الذي ذكرنا منذ عشرات السنين والحضاري منذ آلافها.. وحين تحققت (هبة الكرامة) كما أحب أن أسميها - رفض الشباب وبوعي كبير أن تنسب ثورتهم إلى أي حزب أو كيان أو جهة.. فلا يوجد أوصياء عليهم أو وكلاء عنهم.. وهذا ما أكدوه وأكدته كثير من الشخصيات.. بانضمام كافة فئات الشعب المصري من كل جزء بمصر إلى هذه الهبة، علا صوت «مصر الوطن» فقط برزت مصر كنسيج متسق، تكونت خيوطه المتينة من كل المصريين باختلاف عقائدهم وطوائفهم المسلمة والمسيحية، وهذا نفسه ما حدث في تونس، ويحدث الآن في ليبيا واليمن والعراق.. الخ،، توحد الشعوب وانصهارهم في بوتقة واحدة هو استرداد كرامتهم وتحقيق مطالبهم.. ورفعة وطنهم، ولما كان الوقت يمضي خِفْتُ من تعثر الانجاز وبرود فورة حماس الثائرين، ولما تتحقق جل إن لم تكن كل مطالبهم بعد ومع تلاحق الأحداث العربية الساخنة التي طغت على أحداث مصر تماماً كما حدث إبان ثورة تونس، إلا أن هناك بوادر تبعث على الإطمئنان منها استمرارية حوار المجلس العسكري مع الثوار وغيرهم.. وفي هذا نذكر أنه عندما كنا صغاراً وشباباً سمعنا كثيراً ما يتردد في أدب اليسار السوداني من أن العسكر برجوازية صغيرة مترددة».. الخ. واقتنعت بذلك بما هو ثابت في أرض الواقع من «كنكشة» في مقاليد الحكم وتشبث، أوصل بعض الحكام إلى سحق شعوبهم كما يجري هذه الأيام على معظم الرقعة العربية.. ولكن من المطمئن أيضاً في حالة مصر بخلاف ما ذكرنا - وما حدث من انحياز إلى الشعب - الشروع في تلبية مطالب الثوار وبعث الطمأنينة في نفوسهم، إلى ذلك والى أنه لن تتم ملاحقة حتى النظاميين الذين انحازوا إلى الشعب (بدهي) ثم البدء في مراجعة المواد المعيقة والسيئة في حق الشعب بالدستور.. وما تم من حظر سفر لبعض المسؤولين وحصر وتجميد أرصدة البعض.. الخ من المطمئن أيضاً وعي الشعب المصري ومتابعته اللصيقة بل واستعداده إلى التظاهر والاعتصام مرة أخرى عند شعوره بالاخفاق واستشعاره لأي نزعة سلطوية للالتفاف حول ثورته. أقول أنه رغم نضوج هؤلاء الشباب الفتي.. إلا أنه يظل طري العود قليل التجربة.. وأرجو أن يفتح شخصيات مصر الوطنية وحكماؤها ومن ذكرنا في صدر المقال، أن يفتحوا أذرعتهم وصدورهم لاحتضان هؤلاء الثوار بالنصح والعمل المشترك لبناء «مصر الجديدة».. بل أن ما تحتاجه كل دولة لبناء أمتها وحضارتها ومستقبلها الانطلاق من «المواطنة» فقط.. ولا شيء غير ذلك.. وشعار «أرفع رأسك» رفعته عندنا شركة اتصالات هاتفية في إحدى دعاياتها.. لكن طبقها الشعب المصري فعلياً.. وهكذا السير على طريق النجاح.