مساء السبت الماضي وبدار النفط الفسيحة التي ترقد على ضفة النيل الأزرق، حيث النسيم العليل والطبيعة الجميلة كنت شاهداً على حفل شديد الأناقة، أقامته أسرة مجلس الإعلام الخارجي تكريماً ووفاءاً و(وداعاً) لاثنين من أفراد هذه الأسرة الكريمة من الذين أعطوا وما بخلوا أبداً وما استبقوا شيئاً، وهما الأستاذ بكري ملاح الأمين العام للمجلس، والأستاذة سمية الهادي مديرة إدارة شؤون الصحفيين الأجانب أهم إدارات المجلس. حفل التكريم أقيم بمناسبة قرب مغادرتهما إلى محطاتهما ملحقين إعلاميين بالخارج، الأستاذ بكري إلى قنصلية السودان في دبي خلفاً للأستاذ، والصديق محمد محمد خير الذي انتقل (بفركة كعب)- بعد تجديد الثقة فيه وهو أهل لها- إلى دوحة العرب لمواصلة عطائه الثر من هناك، والأستاذة سمية إلى برلين وهي محطة شديدة الأهمية بالنسبة للسودان، ففيها تمت صياغة أغلب فصول سيناريو أزمة دارفور ومنها انطلقت أكبر وأشرس حرب دعائية ضد السودان مستلهمة كل فنون الدعاية والحرب النفسية التي قادها (جوبلز) ضد أعداء ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وأنا شخصياً مشفق على الأستاذة سمية لأنها سيتعين عليها التصدي لكم هائل جداً من التحديات والمتاريس الإعلامية، ومصدر إشفاقي ليس لأن الأستاذة سمية ليست بقدر هذه التحديات، بل بالعكس لأنها صاحبة مقدرات هائلة في التعامل مع التحديات وطيلة عطائها في الإعلام الخارجي كانت تعمل في مناخ تسوده التحديات، كانت تعمل في (حالة طوارئ) دائمة ومستمرة، ومن خلال موارد شحيحة جداً، ولكنها كانت دوماً (تعمل من الفسيخ شربات)، مصدر إشفاقي عليها أننا كنا نمني أنفسنا أن يكون اختيارها لمحطة خارجية فرصة لها للاستجمام، ونيل قسط من الراحة في عاصمة هادئة في بلدٍ يأمن السودان (بوائقه) تعويضاً عن كل تلك الفترة الطويلة التي قضت سنواتها تصل الليل بالنهار خدمة للوطن دون كلل أو ملل أو شكوى، ولكن (إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام) ومنذ أن تعرفت إلى الأستاذة سمية قبل ثمانية أعوام حين جمعتنا اجتماعات تنسيقية متعلقة بالإعلام الخارجي، وحتى الآن عرفتها شعلة متقدة لا تنطفئ، بل لا تخبو جذوتها للحظة، وكانت مثالاً للصبر وتحملت منا كثيراً من حماقات العمل خاصة في أوج استعار نار أزمة دارفور، وتدفق أمواج الإعلاميين الأجانب منهم المهنيون وأكثرهم كانوا أصحاب غرض من أنصاف الإعلاميين، الذين آذوا السودان بتقاريرهم المفبركة التي تعكس جانباً واحداً من الصورة، وكنا وقتها نقف متحفزين على ثغرة مهمة من ثغور الدفاع عن الوطن، نحاول منها أن نذب عنه طنين إذاعات وفضائيات احترفت الكذب، ونحاول وقف (صرير) أقلام مدفوعة الأجر من حزمة الدفع المقدم. والأستاذ بكري ملاح ألتقيته لأول مرة في أروقة (سونا) وكانت المناسبة مصيبة (دارفور) ولا عجب، فالمصائب يجمعن المصابينا! ونحن مصابون بحب هذا البلد، كان ذلك مع بدايات أزمة دارفور، حيث ضمتنا لجنة إعلام دارفور وقد لفت انتباهي إلى الأستاذ بكري قدرته الهائلة على متابعة وتحليل التطورات اليومية لأحداث دارفور وردود الفعل الخارجية عليها، كان يقوم بعملية warm up)) في مفتتح كل اجتماع بتقديم موجز تحليلي (كبسولة) لمجريات الأحداث، ومن ثم يتم التداول حولها، وامتد التواصل بعد ذلك وتمتن حين انتقل إلى الإعلام الخارجي، حيث دار دولاب العمل فيه بوتيرة متسارعة بفضل التقاء الجهود والقدرات الهائلة لكل من الأستاذ بكري والأستاذة سمية مشكلين ثنائياً غاية في الروعة والانسجام، فكان النجاح الباهر هو الثمرة الطبيعية في ملف الإعلام الخارجي فقد أحدثا فيه نقلة نوعية شهد عليها الكل، سودانيون وأجانب، وشهدت عليها مؤتمرات القمة وكل الاجتماعات الإقليمية والدولية التي انعقدت بالسودان في الفترة الماضية، الأستاذ بكري في كلمته إلى الحضور قال إنه منتقل من الكل إلى الجزء مما بث مزيداً من الاطمئنان بأنه سيسد بجدارة تلك الثغرة، فالكل أكبر وأقوى من الجزء ولم ينسَ أن يوصي الخلف خيراً بالسلف تماماً كالوالد الذي يترك من خلفه ذرية ضعافاً يخاف عليهم، وهذا لعمري في الوفاء عظيم، وكذا فعلت الأستاذة سمية والتي كانت كلماتها آسرة ومؤثرة، وهي تخاطب الحضور فما تركت أحداً إلا وأوفته حقه وشكرته في تواضع وامتنان، وقالت إن موقعها في الإعلام الخارجي أتاح لها فرصة بناء علاقات واسعة أفقية ورأسية مع جهات عديدة بالدولة وأخري اجتماعية ولم تقل كما يقول البعض (إنما أوتيته على علم عندي). الأستاذة انتصار أحمد البشير مديرة إدارة الملحقيات الإعلامية التي كانت دارها العامرة هي وزوجها السفير عبد الله محمد عثمان في القاهرة في ثمانينيات القرن الماضي ملاذاً لنا نأوي إليه ونحن طلاب، حين تعتصرنا المسغبة بسبب تأخر (البريزة) استهلت الحفل بكلمات طيبات كانت خير مبتدأ. أستاذنا عبد الدافع الخطيب في كلمته الرصينة كان غاية في الشفافية حين أماط اللثام عن (موجبات) الترشيح للملحقين الإعلاميين، فأشار إلى أن الاختيار يكون بمثابة مكافأة reward)) واجبة نظير عطاء ثر وغزير يشهده المقربون والبعيدون، وكأن لسان حاله يقول للباقين (ولمثل هذا فليعمل العاملون)، أما الأستاذ العبيد أحمد مروح، فقد كانت كلماته أنيقة بلسان عربي فصيح، رغم أنه نوّه في بداية حديثه إلى أنه سيتحدث بعربي جوبا، ولكنه لم يصمد فكانت كلماته مزيجاً رائعاً بين الجد والفكاهة.. لقد كانت أمسية من أمسيات الإعلام الخارجي لن تنساها الذاكرة.. ونقول للأستاذ بكري ملاح والأستاذة سمية الهادي ربنا يوفقكم ويسدد خطاكم ويحفظكم.. وإن شاء الله ما آخر وداع.