ليس كل مايلمع ذهباً.. وكم من سراب يظنه الناس ماء.. ثمة خديعة منظمة تحكم حياتنا.. وأخرى تبدو بريئة الى حد الشفقة.. ما ذنب القمر مثلاً لنورطه منذ الأزل في التشبيهات الجميلة، بينما هو من الناحية الواقعية ووفقاً لشهادة من وصلوا اليه وشاهدوه عن قرب، يملك وجهاً آخر مختلفاً تماماً عن الوجه الذي نراه من على الأرض.. حيث بينت الصور التي التقطتها المركبات الفضائية أن الوجه الآخر للقمر قبيح جداً ومليىء بالنتوءات والتشوهات، مما جعل بعض العلماء يجزمون بأن الوجه الآخر للقمر لو كان موجهاً للأرض لكان تأثيره خطيراً عليها، بسبب النتوءات التي لا تصلح لأن تكون عاكساً جيداً لأشعة الشمس. المؤكد أن إخفاء هذا الجزء القبيح من القمر علينا وإظهار الوجه الجميل منه لنا له أكثر من دلالة ومعنى، فالله جميل يحب الجمال، ولا شك أنه خلق لنا وجهاً جميلاً للقمر نراه بأعيننا، وأخفى الوجه الآخر ليكتشفه العلماء لاحقاً ويعملون عقولهم وصولاً الى هذا السر الكوني، وما يعنيه من أبعاد علمية وفلكية، مازالوا يلهثون من أجل حل الغازها وفك شفراتها دون أن يحققوا حتى الآن إلا القليل. ما كان للشعراء أن يتغنوا بالقمر لو رأوا الوجه الآخر منه.. وما كانت الجميلات سيرضين تشبيههن بالقمر لو شاهدن الصور القبيحة التي أصبحت متوفرة ومتاحة في المواقع الالكترونية.. وربما تردد كثير ممن كانوا على متن أول مركبة فضائية الى القمر لو عرفوا مسبقاً أنهم ذاهبون الى فضاء قبيح وخال من الجمال والحسن.. وربما أيضاً رفض سكان الأرض العروض المغرية التي كانت تمازحهم وتقول لهم إنه بامكانهم امتلاك منزل فاخر هناك أو قضاء عطلة صيفية مدهشة. ولأننا نرى الوجه الجميل من القمر فقط، فمازلنا ندمن محبته ونجاهر بمدحه واتخاذه معياراً لا يمكن تجاوزه في الجمال والبهاء والروعة.. وهي القصة نفسها التي تتكرر دائماً في حياتنا اليومية، التي ظلت تجمعنا ببشر تتحفنا مظاهرهم ويستوقفنا مظهرهم الخارجي، ولكن حين نقترب منهم ونتعرف على وجوههم الأخرى نفاجأ ونصدم ونندم على مغامرة كشفهم على حقيقتهم، ونتمنى لو أننا لم نكن فضوليين الى الحد الذي يسقط القناع عن الوجوه الأخرى شديدة القبح.. وفي المقابل هناك عشاق لا يستطيعون أبداً ترك من يحبونهم ولو اكتشفوا الوجه الآخر لهم.. فالحب أعمى ولايرى إلا ما يأسر القلب والفؤاد ويشقي صاحبه.. ألم يقل الأولون ( من الحب ماقتل )! والواقع أن لا أحد في هذا العالم لا يخفي وجهاً آخر، طالما أننا بشر ولسنا ملائكة، ولدينا عيوبنا ولنا سلبياتنا، لذلك الناس تجتهد دائماً لإظهار أجمل مافيها.. تماماً مثلما يحدث في فترة الخطوبة من تنميق زائد وزخرفة وبهرجة، ويمررون بعفوية تامة مقولات على شاكلة أنا لا أكذب ولكن أتجمل.. أو من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.. لكن المؤلم هو أن يتحول التلميع الى حالة من النفاق.. وادعاء أشياء لا نملكها أصلاً.. وأن يتسابق البعض لإظهار وجهه وكأنه الأجمل على الإطلاق.. فهولاء أفضل منهم من يملكون وجهاً واحداً صارخاً في قبحه .. حيث الوضوح وعدم القدرة على الإخفاء تجعلنا نحترم أحياناً أصحابها لكوننا نضمن على الأقل اتقاء شرورهم.. أما الواضعين للأقنعة المزيفة فاحترازهم صعب والوقوع في شباكهم سهل جداً.. وصدمتنا فيهم تكون دائماً كبيرة وضخمة! قال أحدهم: ( الوجه الاخر للقمر .. مظلم وبشع .. إذن لعل وراء الجدار الخرب قصراً عامراً.. ولعل وراء الباب الضخم كوخاً خربا !!).. لكن هذا القول على وجاهته ومنطقه لا يخلو من تشاؤم وتخوف من اكتشاف الأشياء على حقيقتها.. حيث تظل مقولة فلننظر للوجه المليء من الكوب أكثر ملاءمة، لأننا ننظر هنا ونحن ندرك في مخيلتنا أن هناك جزءاً فارغاً منه، وهي تشبه تماماً فلسفة أن هناك وجهاً آخر للقمر دون أن تلغي عن القمر القه وسحره ودهشته، أو تخفي حاجتنا النفسية والوجدانية لوجود القمر في حياتنا كرمز للحب والجمال تعارفنا عليه.. فالحياة لن تمضي كما قال الراحل عبدالله ونوس أن لم نكن محكومين بالأمل. ماوراء اللقطة: في ظاهرة (الخسوف) حين تجد الأرض نفسها بين القمر والشمس.. يغسل القمر وجهه الآخر بضوئه ونوره ليبدو جميلاً أنيقاً وينتصر على القبح .. ألا يستحق القمر أن ننظر لوجهه الجميل فقط وأن نستمد منه طاقة روحية مشعة لحياة أجمل وأبهى وأروع!.. ألا يستحق أن نقول لمن نحبهم أنهم: ( زي القمر )!!