نعم، المنطقة تمور بالثورات، كرة اللهب تتدحرج في الشرق الأوسط والمنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، ومن شواطئ المتوسط والأحمر إلى سواحل بحر العرب والمحيط الهندي، تقتلع الأنظمة وتسقطها أو تكافح من أجل إصلاحها وتقويم مسارها، فهل فكر أحدٌ بأن إسرائيل تقع في قلب هذا «التسونامي الثوري»، وأنها معنية بشكل أو آخر بهذا الذي يجري حولها، لأنه في النهاية هو ما سيقرر مصيرها ويرسم مستقبل شعبها؟. لماذا لا يطرق التحليل السياسي بالقراءة المستقبلية ولو من منظور «الخيال العلمي» أبواب هذا النظام الصهيوني المغلق في إسرائيل «فلسطينالمحتلة»، الذي يتمترس خلف آيديولوجية عتيقة وعدوانية تنتمي لمخلفات القرن التاسع عشر؟ أليس هو الآخر «نظام سياسي» قابل للتفكيك والتغيير؟ فمثلما ليس كل العرب أو المسلمين شموليين أو أصوليين منغلقين على الماضي، وغشتهم موجة التحرر والاستنارة، وبدأوا يثورون في وجه الأنظمة الدكتاتورية القديمة، فإن الإسرائيليين أو اليهود - أينما كانوا- ليسوا كلهم من أتباع العقيدة الصهيونية، وبينهم قوى سياسية واجتماعية لا مصلحة لها في استمرار إسرائيل كدولة «احتلال وحيدة» وكيان عنصري نشاز في منطقة تشهد تغيُّرات جذرية وتتقدم شعوبها باتجاه السيطرة على مصائرها، دولة تبقى متخلفة ورجعية بمقاييس حقوق الإنسان، مارقة وظالمة لشعب آخر، هو الشعب الفلسطيني الذي تعايش مع الشعب اليهودي أو من بقى منه في أرض فلسطين، بعد حقب التيه والشتات، كجزء من المكونات السكانية التاريخية لتلك الأرض، إلى أن قامت دولة إسرائيل «العبرية» بفعل الهجرة والقتل والتشريد الذي مارسته عصابات متمردة وجدت الدعم والمساندة من الدول الكبرى في الغرب والشرق على حد سواء، واتخذت من «الديمقراطية البرلمانية» شكلاً للحكم وليس جوهراً ومضموناً له يؤطر العلاقات بين كل السكان المقيمين في أرض فلسطين. ليس كل اليهود والإسرائليين سواء في انتمائهم لدولة إسرائيل أو العقيدة اليهودية، فقد ظهرت بينهم في فترات متفاوته طلائع وحركات وفيالق للسلام تدعو للعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، طلائع شملت المفكرين والعلماء ورجال الدين - الحاخامات المنفتحين- والطلاب والصحافيين والمثقفين، فلماذا لا تتحرك قوى الثورة الفلسطينية، بكل فصائلها باتجاه مبادرة سياسية أوسع أفقاً وأبعد نظراً وأكثر جرأة، من أجل تحريك الشارع الإسرائيلي باتجاه المشروع الأساس الذي انطلقت منه الثورة الفلسطينية «مشروع الدولة الديمقراطية الفلسطينية»،الذي يضمن التعايش والتساكن والتواصل بين أتباع الديانات الثلاث- الإسلام والمسيحية واليهودية- من عرب وعبريين دونما تمييز مع نبذ التطرف والإقصاء في كل اتجاه. فنحن نعلم أن «مشروع الدولة الفلسطينية» المستقلة على أي جزء يتحرر من أرض فلسطين، ما هو إلا «مشروع مرحلي» كما أقرّه وأسماه المجلس الوطني في دورة انعقاده بالجزائر عام 1988م، مشروع فرضته ظروف التراجع والحصار الذي واجهته المقاومة الفلسطينية، ورأى فيه الكثير من قوى المقاومة- يمنياً ويساراً- تنازلاً عن الهدف الرئيس والنهائي «تحرير فلسطين» وإقامة الدولة الديمقراطية على أرضها. تنازل وتراجع فرضه انخراط بعض دول المواجهة في مشروع التسوية الأمريكية الاستسلامية، التي قادتها أكبر وأهم تلك الدول «مصر السادات» في أعقاب حرب أكتوبر 1973م، لتتبعها الأردن باتفاقية «وادي عربة» ومن ثم حركة «فتح» و منظمة التحرير الفلسطينية من خلال اتفاقية أوسلو، كحال من يبحث عن «الرايحة في خشم البقرة». وفي كل تلك الاتفاقات كانت الولاياتالمتحدة تستجيب لأسباب سياسية داخلية - لضغوط اللوبي الصهيوني في الكونغرس والمنظمات المؤثرة في صناعة القرار- «كالآيباك» ونشطاء متحف «الهيليكوست»، التي تلعب على عقدة الذنب «الغربية» تجاه ما أصاب اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، من أجل انتزاع مصالح سياسية واقتصادية لصالح الجاليات الهيودية و«الحركة الصهيونية» المتمددة والمنسابة في عروق ومفاصل المصالح الإمبريالية للدول الكبرى في أمريكا وأوربا، فغدت بمرور الزمن جزءً لا يتجزأ من صناعة القرار السياسي والاقتصادي في تحالف يبدو- في ظاهره- أبدياً بين تلك المصالح والحركة الصهيونية، لكن المفاجأة الكبرى قد تتمثل في تهديد هذا «التحالف» بالذات، عندما يصبح القرار في هذه المنطقة الحيوية بأيدي شعوب المنطقة العربية، هذه المنطقة التي تسيطر على أضخم موارد الطاقة -النفط- التي تحرك وتتحكم في حركة الصناعة والإنتاج في تلك الدول الغربية، وتمثل في الوقت ذاته -وبسبب عائدات النفط- أهم الأسواق للمنتجات الصناعية والتسليحية لتلك الدول وشركاتها وكارتيلاتها العابرة للقارات. فيما أن منطق الربح والاستقرار المنتج للأرباح واستمرارها، هو المنطق الذي يقرر في نهاية المطاف أين يقف أصحاب هذه المصالح، يصبح التوقع - المنطقي إذن- هو أن تجد تلك الدول وشركاتها وكارتيلاتها نفسها في تناقض مع الحركة والآيديولوجية الصهيونية المعادية للفلسطينيين والشعوب العربية، ومن ثم تبدأ البحث عن مكامن مصالحها الحقيقية، و سيصبح عليها أن تختار بين مصالحها الكبيرة لدى الشعوب العربية أو مصالحها المحدودة مع الحركة الصهيونية، وقد ينعكس هذا - بالضرورة- في وقت ما في المستقبل على الدعم اللامحدود الذي تمتتع به - حتى الآن- الدولة العبرية- الصهيونية، لتدخل كغيرها في دورة المعاناة والصعوبات الاقتصادية التي تلقي بظلالها على رفاهية المواطن الإسرائيلي وعلى قدرتها في الحفاظ على التفوق العسكري والتوازن الاقتصادي والتأثير السياسي، لتبدأ التذمرات والاحتجاجات الداخلية، بسبب انتشار البطالة بين الشباب الإسرائيلي الذي سيصحو على واقع بائس كحال رصفائهم في الدول العربية، الذين اُضطروا لأخذ المبادرة ومواجهة أنظمتهم القمعية، فيبدأون التحرك في مواجهة النظام الصهيوني الذي انتهى بهم إلى هذا الواقع المرفوض، وتتسع نتيجةً لذلك الحركة الداعية للسلام والتعايش بين الشعبين العربي واليهودي، ونبذ التفرقة العنصرية والدينية والطائفية. وعندها يكون دور إسرائيل كقاعدة عسكرية وحاملة طائرات أمريكية وأوروبية في قلب المنطقة العربية قد تضاءل وتلاشى، وتصبح «الدولة الديمقراطية» الجامعة والمستوعبة هي الخيار الأوفق للعرب واليهود وللمصالح الغربية أيضاً!.