مع تدشين حملته لمنصب الوالي في انتخابات جنوب كردفان قال الأستاذ عبد العزيز الحلو القيادي الشمالي بالحركة الشعبية لتحرير السودان إن «المشورة الشعبية» ليس لها سقوفات بشأن احتمال اختيار أهالي جنوب كردفان «للحكم الذاتي»، وأردف: أن انفصال الجنوب أقرته اتفاقية السلام الشامل عبر الاستفتاء، وكذلك شعب جنوب كردفان «يمكن أن يحدد خياراته عبر المشورة الشعبية التي نصت عليها الاتفاقية ذاتها»، مضيفاً أن المقارنة بين ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق منعدمة، لأن «صراع المركز مع الولايات يختلف» بحسب تعبيره، ومن ثم انتقل الأستاذ الحلو بخطابه «التدشيني» للحديث عن أزمة «أبيي» الواقعة في الخاصرة الجنوبيةالغربية للولاية، مؤكداً أن المسيرية سيكتشفون قريباً استغلالهم في الصراع الدائر حول أبيي، «لأنهم أقرب للهامش» وقال إن الحركة الشعبية لن تقحم قضية أبيي في أية «تسوية مع المؤتمر الوطني» حتى لو كانت تلك التسوية تقضي «بمقايضة أبيي بمنصب والي جنوب كردفان». قصدت عن إيرادي هذا المقتطف الطويل من خطاب الأستاذ الحلو في بدء حملته الانتخابية، التي ينافس فيها الأستاذ أحمد هارون والي الولاية ومرشح «الوطني» للمنصب ذاته أن أضع بين يدي القاريء أن قادة «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، والشماليين منهم خصوصاً ما زالوا يتمترسون في خطابهم القديم، برغم المتغيرات الجوهرية والنوعية التي طرأت على الساحة السودانية وبدلت تركيبة الوطن الجغرافية والسياسية والاقتصادية والسكانية، حاضراً وإلى ما شاء الله، وكان أهم وأخطر هذه المتغيرات هو «انفصال الجنوب» الذي لعبت فيه الحركة دوراً مركزياً وقيادياً، حتى أتى الاستفتاء فيه بالنسبة «التسعينية» التي أتى عليها، في تناقض فاضح ومريع مع كل التبشير والبرنامج السياسي التاريخي الذي اعتمدته الحركة وميزها عن كل التمردات الجنوبية التي سبقتها، ذلك البرنامج الذي يقوم على ما تسميه الحركة بالسودان الجديد «تشفيراً» أو اصطلاحاً للسودان الموحد العادل والديمقراطي والمستوعب لأبنائه دونما تمييز لعرق أو ثقافة أو لون. وهو البرنامج الذي قاد أعداداً مقدرة من النخب الثقافية والشبابية الشمالية للالتحاق بالحركة، أملاً في تكريس وحدة البلاد وتأمين تقدمها على أسس ديمقراطية- سياسياً واجتماعياً- بعد أن استيأسوا من قدرة الأحزاب القديمة وطروحاتها في إنجاز تلك الوحدة المبتغاة والديمقراطية المستدامة المنشودة، والأستاذ عبد العزيز الحلو هو واحد من تلك النخب التي اتجهت جنوباً تدفعها تلك الآمال والطموحات النبيلة. كنا، وما زلنا نقول، إن اتفاقية نيفاشا، وبرغم إنجازها الكبير والوحيد المتمثل في وقف الحرب الطويلة والمدمرة بين الشمال والجنوب، إلا أنها كانت خطة تنطوي على مخاطر وألغام لا قبل للحركة السياسية السودانية ومنها «الحركة الشعبية» على تخطيها، فبالإضافة إلى «تقرير المصير» كبديل جاهز ومغر ومحفز لتشطير الوطن في حالة العجز عن توحيده على أسس ديمقراطية وعادلة، فقد حُمِّلت الاتفاقية بألغام ومتفجرات أصغر قد تكون أشد خطورة على المدى البعيد لقابليتها أن تفتك حتى بالشطر الشمالي للبلاد بعد الانفصال، ومنها «المشورة الشعبية» الغامضة الصياغة وبروتوكول أبيي الذي صاغ بنود مسودته المبعوث الأمريكي الأسبق القس دانفوث وتم تمريره بيسر وسهولة في زحمة الصراعات والتجاذبات التي طبعت المفاوضات في ميشاكوس ونيفاشا. وفي الحالتين كان استرضاء الكوادر والمقاتلين المنحدرين من المناطق الثلاث- النيل الأزرق- وجنوب كردفان- وأبيي- عاملاً حاسماً، ربما بدافع «الوفاء» من جانب الحركة الشعبية لأولئك الذين انتموا إليها وحاربوا في صفوفها ولابد من خروجهم ب«جائزة ما» في حال انفصال الجنوب الذي كانت كل الدلائل تشير إلى أنه الخيار المفضل لدى الحركة وكثير من الجنوبيين اعتبروه بنداً مفصلياً في كل المفاوضات والاتصالات التي سبقت الاتفاقية، حتى عندما كانت الحركة جزءاً من التجمع الوطني الديمقراطي. الآن ذهبت الحركة جنوباً، بعد أن فاض «ماء» الانفصال، و«الموية بتكضب الغطاس» كما يقول أهل السودان، وجاءت انتخابات النيل الأزرق التي فازت بولايتها وتعطل الاستفتاء في أبيي، وها نحن اليوم بمواجهة انتخابات جنوب كردفان، وإذا بنا نفاجأ اليوم بالخطاب القديم ذاته للحركة «ما قبل الانفصال» من الأستاذ الحلو، الذي يتحدث، كما فعل رفيقة الأستاذ مالك عقار، عن أن سقف «المشورة الشعبية» غير محدود، مشيراً إلى «الحكم الذاتي» للأقليم باعتباره خياراً قد يتقرر عبر المشورة الشعبية وأن «شعب جنوب كردفان يمكن أن «يحدد خياراته» مثلما فعل شعب جنوب السودان عبر اتفاقية السلام التي أقرت «انفصال الجنوب» مع تأكيده على أن «الحركة الشعبية لن تقحم قضية أبيي في أية تسوية مع المؤتمر الوطني»، وتلك ثالثة الأثافي- كما يقولون- لأن الأستاذ الحلو يتحدث هنا وعن أبيي تحديداً باعتباره قيادياً في الحركة الشعبية ولن يساوم المؤتمر الوطني ولن «يقحم»- لاحظ يقحم- أبيي في أية تسوية لا تتفق مع إصرارالحركة على إلحاق أبيي بالجنوب، مع المؤتمر الوطني أو غيره، وأن المسيرية أنفسهم «مهمشون» ومستغلون من جانب الحزب الحاكم وسيكتشفون ذلك عما قريب، كما قال، عوضاً أن يصبح هو مسهلاً وعنصراً مساعداً في تحويل أبيي إلى منطقة تكامل بين شطري الوطن، و «نفاجاً» لعلاقة مستقبلية أفضل. فخطاب الأستاذ الحلو، جاء نموذجاً صارخاً وضاجاً، لأدبيات خطاب «الحركة الشعبية الحديثة»- ما بعد نيفاشا- ذلك الخطاب الذي دفع بكل أولويات الحركة التاريخية وأدبياتها الوحودية إلى الخلف باعتبارها ماضٍ يجب نسيانه. والأخطر من ذلك أن الحركة التي تعمل الآن على إعادة تأسيس تنظيمها وحزبها الجديد في الشمال بعد الانفصال تتبنى نفس الخطاب الموحي بنوايا الصراع الإقليمي والإثني وليس السياسي والفكري من خلال تعبيرات من قبيل «الجنوب الجديد»، الذي يعطي الفقر أو «التهميش» لوناً وعنصراً وجهة خاصة به، في تجاهل لحقائق الواقع التي تقول بأن أهل السودان بأغلبيتهم الغالبة فقراء- مهمشون بلغة الحركة- وأن ثلاثية الفقر والجهل والمرض لا تستثني منطقة أو قبيلة أو جماعة، بدءاً من جبل الأولياء جنوباً ومن الحاج يوسف شرقاً ومن أم بدة غرباً ومن الجيلي شمالاً، هذا غير ما تذخر به العاصمة المثلثة من جيوش الفقراء والمعوذين والمشردين والمرضى الذين تغط بهم المستشفيات، في انتظار الحد الأدنى من العلاج. بصراحة، بصراحة الحركة ستخسر الكثير من أصدقائها ومناصريها ومن علَّقوا عليها الأمل في أن تكون إحدى روافع الانعتاق إن هي واصلت ذلك الخطاب القديم ذي «الهوى القومي الجنوبي»، لأنه في هذه الحالة سينظر إليها «كفرع شمالي» أصله في الجنوب وليس «كحزب جديد» بمحتوى سياسي متقدم ومتحالف مع كل قوى الديمقراطية والتغيير والعدالة في البلاد، وهذا ما يجب أن تدقق فيه الحركة وتتأمل عواقبه وهي تتجه لإعادة صياغة وجودها وتنظيم حزبها في الشمال، الذي يؤمل أن يكون في مقدمة واجباته العودة لبرنامج الحركة التوحيدي التاريخي وأن تعمل على تأسيس علاقة تواصل مع الجنوب ذاته تجاوزاً للاضرار المدمرة التي قد تترتب على انفصال عدائي، وأن تكتشف أفضل الصيغ لتحالف وطني ديمقراطي عريض يطّلع بالمهام الكبرى لإعادة بناء الوحدة الوطنية وسقوفها المشلعة، عوضاً عن الأحاديث التي تؤخر ولا تقدم عن «الحكم الذاتي» لهذا الأقليم أو ذاك والسقوف المفتوحة للمشورة الشعبية في وطن «غير مسقوف» أصلاً.