كانت مهنة ولازالت.. وهي مهنة قد تكلف المرء حياته.. مثلما أن عدم الالتزام بشروطها قد يكلف آخرين حياتهم أيضاً.. وفي الموروث الإنساني القديم ظللنا نسمع عن ملوك وخلفاء وزعماء ينتقون أشخاصاً بعينهم ويجعلونهم بمثابة البئر الذي يدفنون فيه أسرارهم، وهم يمتازون بقدرة مدهشة على الإنصات الجيد ولجم اللسان وتكبيله من البوح بهذه الأسرارالخطيرة! ورغم أن مهمة هؤلاء تنتهي عند هذا الحد.. أي حد الاستماع والدفن العميق.. إلا أن من كانوا يملكونهم هذه الأسرار ظلوا دائماً يبادلونهم الثقة المطلقة، ويؤكدون بأن مجرد البوح في الهواء الطلق أمامهم يشعرهم براحة عجيبة.. كأن اثقالاً حديدية تنزاح من على صدورهم.. غير أنهم سرعان ما يتحولون الى مصاصي دماء حين يكتشفون أن أسرارهم تم تسريبها، وهم لا يترددون في محو كاتمي الأسرار من على وجه الأرض، حتى لو أن هذه الأسرار خرجت من غيرهم أو روجت لها مجرد اشاعات، ثم تطابقت مع الواقع..! كثيرون في التاريخ البشري المحفوظ على الأقل فقدوا حياتهم ثمناً لهذه المهنة.. وثمة قصص وروايات لشلالات من الدم انسالت على كراسي الحكم من وراء الأسرار التي قد تكون بسيطة وصغيرة ولكنها قد تهز عرشاً أو تزعزع أمناً. وفي حياتنا اليومية هناك من نأتمنهم على أسرارنا دون أن نملك عليهم حق العقاب والمحاسبة، وإن أفشوا هذه الأسرار.. فقط نشعر بالصدمة والحزن العميق والأسى البليغ، لأننا وثقنا بهم وملكناهم أشياء تُخصنا.. وبُحنا أمامهم بأمور إن تجاوزتهم شكلت خطراً علينا..! وتجارب البشر ظلت تؤشر بجلاء الى أن من يكتمون الأسرار هم عملة نادرة في هذا الزمن، وأن معظم الأسرار تجد طريقها للنشر والذيوع بمجرد أن تخرج من أصحابها، ورغم ذلك فهناك من يدمنون الحديث بصوت جهور أمام اصدقائهم عن أسرارهم وخفاياهم وخصوصياتهم.. يفعلون ذلك ربما للتنفيس عن أنفسهم أو إشراك الآخر في محنتهم وانتظار المشورة والنصيحة.. لكنهم وحين يصحون من غفوتهم يكتشفون أنهم وضعوا رقابهم رهينة للآخرين، أن مصيرهم قد أصبح مرتبطاً بهم وبمدى أمانتهم أوعدمها.. وفي كل الأحوال فحالة من الأرق والقلق تهيمن عليهم، وقد تجعلهم يندفعون أكثر فيتوسلون ويترجون ألاَّ تخرج أسرارهم والتي قد يستغلها البعض لابتزازهم أو النيل منهم..! ومناسبة الحديث عن الأسرار هو فيلم شاهدته مؤخراً من بطولة الفنان احمد زكي يجسد فيه دور «وزير» فتح قلبه لمعاونه الخاص، وأخبره بكل تفاصيل حياته، وملكه نقاط ضعفه وأسره بخطاياه وذنوبه، وحين انتبه لنفسه اكتشف أن «معاونه» هذا يعرف عنه كل شيء، ويمكن أن يشيي به أو يتآمر عليه، فما كان منه إلا أن أطلق عليه الرصاص بمسدس »كاتم للصوت«.. ظناً منه أن ذلك وحده هو الذي سيحيل بين «كاتم أسراره» وفضح حقيقته التي لو عرفها الآخرون لسقط في نظرهم وسقطت الحقيبة الوزارية من يده..! هناك أسرار وخاصة في حياة الكبار لا يستطيعون استبقائها في أعماقهم، لذلك هم يجهرون بها لمن يثقون في أنه أمين عليها.. ولكن حين يتنفسون الصعداء ويخرجون الأسرار الساخنة من صدورهم يشعرون لاحقاً بمشكلة أخرى هي الخوف والقلق والرعب، من أن يفشي هذا الأمين تلك الأسرار.. لذلك من يحملون عبء هذه الأسرار يتحسسون دائماً رقابهم.. ويضعون شريطاً لاصقاً على أفواههم.. ورغم ذلك هم لا يأمنون مغبة ما قد يحدث لهم..!. وما سبق كنت قد نشرته من قبل ووجدتني أعيد قراءته في ضوء مستجدات الوضع السياسي العربي، وانشقاق كثيرين من المقربين للأنظمة العربية المغضوب عليها من شعوبها.. وكنت دائماً اتساءل عن سقف الأسرار التي ستخرج للعلن من أفواه هؤلاء الذين ربما (شافوا كل حاجة ) !! ماوراء اللقطة: (موسى كوسا) وزير الخارجية الليبي الذي أعلن مؤخراً انشقاقه عن القذافي، ونفد بجلده الى لندن، شكل صفعة سياسية كبيرة في وجه (معمر العقيد)، فهناك الآن الكثير من الأسرار الخاصة جداً بنظامه، يستمتع بأدق تفاصيلها حشد من وكالات الاستخبارات الأجنبية.. وحتماً سيجد المثير منها طريقه الى وسائل الإعلام التي تريد أن تجعل فضائح النظام الليبي (بجلاجل) كما يقول أخواننا المصريون.. فهل سيبوح ( كاتم الأسرار ) بكل شيء؟!