خبر (آخر لحظة) لتغطية زيارة الرئيس لمستشفى الولادة بأم درمان جاء تحت عنوان كبير يقول: (البشير يوجه بتدريس الاستقلال بالمدارس) فلفت النظر للمضمون الأكبر، ولما هو جدير بالاعتبار وسط كل هذه الانجازات الباهرة للمستشفى وليد الاستقلال الحائز على الدولية، وفى خضم أحداث حولنا مربكة تبدو مصنوعة لا تشبه موروثات كفاح الأجيال وتميزها. إبراز الخبر بهذا التكنيك المبتكر(21 / 12) أثار عندي خواطر شتى من وحي المناسبة التى حلت بين ظهرانينا من جديد لتستفزنا وتستلهم فينا ما أمكن، وعلى طريقة الفرصة الأخيرة نوازع الامساك بأهم غايات الاستقلال التى بقيت قيد الانتظار، لتعود للسطح مع احتفالات كل عام ثم تتوارى مع اللوحات الخلفية. ذات مرة من هذه الاحتفالات السنوية المعتادة مثلها وعيد رأس السنة، كنا منهمكين فى مشاهدة عروض احتفالية فى ولاية مضيافة، بينما نسايم يناير تلهم الخيال والخواطر, فمال نحوي صحفي شاعر معروف بأناشيده الوطنية جاورني فى المقصورة ليسألني هل لاحظت كم هو رائع ومهيب علم السودان هذا وهو يتمدد يملأ الفضاء خفاقاً مع انسياب هذه النسائم، وكأنه يحدثنا فى شأن الشرف الباذخ الذى تجسده المناسبة!!. أشار بيده للعلم، والأمر كان كذلك فعلاً،علمنا رائع ومهيب، يتربع فى الفضاء ويستحوذ على المقام المحتشد على الأرض ليؤكد أنه(سيد الموقف)، لا مشهد غيره جدير بالملاحظة والاعتباروالتأمل. علم لبلادٍ عزيزة وموحدة. هذه العزة والوحدة كانا ومازالا يشكلان مضمون الاستقلال،وهذا هو تحدي الأجيال الحاضرة اليوم بالذات، وهى تحتفل بمرورالذكرى الجديدة فى خضم جدل الوحدة والانفصال، هل تسلم ما ورثت لمن بعدها هكذا كاملاً غير منقوص؟الأمر يحتاج الى(إحساس) فعلاً. الإحساس بالعلم يبدو أنه فى حاجة لشعراء، كما فعل جاري على المقصورة وفعل الشاعر الرقم يوم قال: يا شاعر النيل لاح العيد وابتسما فحيي غرته واستنهض الهمما أما ترى الشعب قد ماجت مواكبه وردد الحمد والتكبير والقسما إنا اتحدنا فكان النصر رائدنا وكان حظ سوانا الذل والرغما والقصيدة طويلة وشاعرها من قال: يا بنى السودان هذا رمزكم يحمل العبء ويحمى أرضكم (أحمد محمد صالح)وقد غرد معه على ذات الغصن كوكبة من شعراء الوطنية، الذين مجدوا الاستقلال وعززوا إحساسنا به ورأوا فى علم البلاد دليلاً على الحرية والوحدة، يقول الشاعر جماع: عزف السودان لحناً خالداً من صدى الفرحة فى رفع العلم ومشى الشعب طليقاً داخلا رحبة التاريخ فالقيد انحطم تحدي المحافظة على التراب والتراث مازال ماثلاً تجدده مهددات التشظي ورياح العولمة والغاء خرائط الأوطان المتحررة التى كانت رسمتها أقدار الأجيال وتضحياتهم. الأحداث حولنا فى هذه الآونة تجعل الإحساس بالاستقلال والعلم هذا العام احساساً متعاظماً تلهمه مثل هذه الأشعار والأنفاس الوطنية النقية.. وسنجد أن المبررات لهذا الإحساس متعددة إذا تمعنا فى الجدل الدائر الآن ولأول مرة حول المصير الذى ينتظر تراب البلد الذى كتب الأجداد(وصيتهم)بشأنه الى أن وصلت لأجيال اليوم: جدودنا زمان وصونا على الوطن.. على التراب الغالى الما لي تمن. مثل هذه الأناشيد الوطنية لكثرة ماترددت والفناها جعلت الرأي العام السائد والراسخ على مدى سنوات الاستقلال هو أن تراب السودان واحد لا يتجزأ.. وما ثار أي جدل حول مفهوم مغاير من قبيل ما بدأ يتردد الآن، وعلى كل حال هذا من حقهم الدستوري وقد يفضي للمزيد من التماسك والصلابة، هل تأخرنا فى مناصحة تجدي (عند منعطف اللوي) بشأن(المصير) و(الوصية)أم أن مابدا يطفو على السطح فجأة بعد نصف قرن هو من باب الغيرة على الوحدة وكمظهر آخر لتشبث أهل السودان بما يجمعهم ورغبتهم فى تقديم نموذج فى التعايش لغيرهم من الشعوب. إن أصواتا حادبة ارتفعت فى هذه الأثناء تقول إن السودانيين فى حقيقتهم يطمعون لأكثر من الوحدة، يطمعون فى ريادة مشروع لتوحيد القارة بأكملها.. صحف الاسبوع الماضي رشحت بهذا ضمن ما حفلت به مما يثير الخواطر والظنون والتكهنات والاستفزاز فيما يتعلق بملف(المصير)جنباً الى جنب القناعات التى رسخها شعراً ونثراً، خطاب الاستقلال والوحدة على مر السنين الخمسين. فالى أين؟ وأي مستقبل ينتظر خلف الجدران؟. فى هذا المناخ أطلق رئيس الجمهورية دعوته التى لخصتها الصحيفة فى عنوان الخبر(تدريس الاستقلال بالمدارس)وانطلقت من المستشفى الذى يرعى المواليد بمناسبة حصوله على شهادة تقدير دولية، ربما كان المقصود هو التأكيد على أن الاهتمام بالاستقلال والهوية يبدأ من هنا، من (المواليد) ومن(التميز)، فعلينا أن نعد الأجيال على قيم الوطنية والتميز معاً. إن الاهتمام بالأجيال القادمة كأساس لصون هوية الأمة هو منهج عالمى ارتضته الشعوب التى خرجت من تجارب مريرة من التمزق، لتستعصم بالوحدة وتتشبث بها، وعلينا أن ندرك من هذا السياق أن الاهتمام بالمواليد والأجيال القادمة هو أعظم شأنا، كما ظهر بهذا المستشفى الذى أراد أن يضرب المثل لمؤسسة سودانية ولدت مع الاستقلال وتميزت واستحقت الثناء عالمياً، فكم مثلها اليوم بعد خمسين عاماً وكم تراجع؟ ومن يسأل عن هذا أصلاً؟. إن منح الأولوية لرعاية المؤسسات والأجيال القادمة يتطلب الاهتمام بمقاييس ومناهج تربط المواليد والطلاب والشباب وسائر مكونات الموارد البشرية بهوية البلاد، لضمان تغذية فصيلة القادمين على مسرح التميز بمنابع هويتهم وأمجادهم وقيمهم، أو هكذا توحي صياغة الخبر وكأنه مجموعة رسائل من قبيل (الوصية) موجهة لأهل التربية والتوجيه ولخبراء التخطيط والهوية. يتطلب الأمر أن تتابع الصحيفة صدى الخبر للتأكد من وصول هذه الرسائل وللإطمئنان بأن المحتفلين بالاستقلال هذه المرة بالذات مشغولون بمضمونه وبالهوية والقيم الموروثة، وما تعايش عليه وارتضاه أهل السودان ، فأي شىء جدير بالاعتبار أكثر من هذا والبلاد مقبلة على تطور دستوري فاصل ؟.