في حوار له مع صحيفة «الانتباهة» يوم أمس الأول (الأحد)، رد الأمين السياسي للمؤتمر الوطني د. إبراهيم غندور على سؤال حول أن «بعض الناس يعتقدون أن حزبه- المؤتمر الوطني- سيدفع فاتورة طرحه لخيار تقرير المصير»، رد بقوله: المؤتمر الوطني لا يدفع فاتورة، لكنه سيلتزم بخيار أهلنا في الجنوب، إذا اختاروا الانفصال، والانفصال قبل ذلك وقع عليه حزب الأمة بواسطة مبارك الفاضل- لم يذكر غندور التاريخ واختار كلمة الانفصال بدل «تقرير المصير»، ثم وقعت كل الأحزاب- يقصد المعارضة- في مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا، من بينها الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة والحزب الشيوعي والحركة الشعبية، بعد ذلك وقع المؤتمر الوطني من خلال حكومة البرنامج الوطني عام (2005)، مما يؤكد أن قضية تقرير المصير طرحتها بعض الأحزاب السياسية منذ وقت مبكر، ونحن- كما قال- ملتزمون بما يختاره الجنوبيون وإن كنا سنعمل من أجل الوحدة. الإجابة أعلاه، التي نقلناها- نصاً- من حديث بروفيسور غندور «للانتباهة»، يمكن تصنيفها في إطار أن «الشينة منكورة» كما يقول أهلنا، وربما نشكر للبروفيسور غندور إحساسه بأن الانفصال «حالة شينة» وليس محمدة كما يرى بعض الداعين إليه شمالاً وجنوباً، ولكن هذا لا يعفينا- كمراقبين- ولا يعطي المؤتمر الوطني كحزب أو الإنقاذ كحكومة، من رصد الأحداث كما حدثت في الواقع فعلاً، إحقاقاً للحق وتصحيحاً للتاريخ إذا ما وقع الانفصال، لا قدر الله. فليس صحيحاً أن أحزاب المعارضة ذهبت لتقرير المصير- الذي سماه د. غندور (انفصالاً) باعتبار ما سيكون- وفي هذا لابد من العودة قليلاً إلى الوراء، فالمعلومة المعروفة والمتاحة والشائعة عن انقلاب «الإنقاذ»، هي أنه جاء- وباعتراف الجبهة القومية الإسلامية التي دبرته وحركته في الثلاثين من يونيو 1989- جاء استباقاً لتوقيع «مبادرة السلام السودانية»، التي اشتهرت باتفاق الميرغني- قرنق، كما هو مقرر في الرابع من يوليو من ذلك العام، والتي كان من بين بنودها تجميد (الحدود) الشرعية الواردة في قوانين سبتمبر، وإلغاء اتفاقات وبروتوكولات الدفاع مع مصر وليبيا، ومن ثم عقد مؤتمر دستوري لكل القوى السياسية والأهلية السودانية يتم فيه التوافق على شكل الحكم في السودان، والجميع يذكرون احتجاجات «الجبهة» على مبادرة السلام السودانية وتسييرها للمواكب، ومنها ما أصبح يعرف في أدبيات الإسلاميين ب«ثورة المصاحف». مثلما يذكر الجميع أيضاً اشتعال الحرب وتأجج نيرانها في الجنوب، بعد أن تحولت في ظل «الإنقاذ» من «حرب أهلية» تتصل بالمطالب الاقتصادية والإدارية والسياسية لأهل الجنوب، إلى «حرب دينية» تجيش فيها الجيوش تحت ألوية الجهاد والتهليل والتكبير، الأمر الذي هيأ الأجواء أمام الانفصاليين الجنوبيين للضغط على القوى الوحدوية هناك، تحت ذريعة أن «لا فائدة ولا وحدة ترجى من بلد يحكم بدين واحد»، وهو ما دفع الحركة إلى اعتماد خيار «تقرير المصير» كخيارٍ ثانٍ أو خيار تفاوضي في مؤتمرها الأول الذي انعقد في شقدوم 1994. لكن الثغرة الأكبر في حديث د. غندور، تكمن في تجاهله لواقعة مهمة في «قصة تقرير المصير»، واقعة لقاء جنيف بين د. علي الحاج ود. لام أكول التي تم فيها الاتفاق على منح الجنوب تقرير المصير بما في ذلك حق الانفصال، في نحو فبراير من عام 1992، أي بعد شهور من تمرد الناصر في أغسطس 1991 ذلك التمرد الأكبر والأهم في تاريخ الحركة الشعبية، والذي قاد إلى ذلك اللقاء الذي مهد «لاتفاقية الخرطوم للسلام»، التي كانت أول اتفاق من نوعه في تاريخ السودان يمنح الجنوب حق الانفصال عبر تقرير المصير، وهو الذي قاد الحركة في ما بعد- تحت ما أحدثه من ضغط معنوي وسياسي على قيادتها- لتبني خيار تقرير المصير، كخيار ثانٍ- تفاوضي، استجابةً للواقع الجديد الذي أفرزته تلك الاتفاقية، بالرغم من تمسك الحركة- علناً- بمشروعها الأساسي وهو مشروع السودان الديمقراطي الموحد، الذي تدعوه «السودان الجديد». صحيح أن أحزاب التجمع الديمقراطي قد وقعت على برنامج القضايا المصيرية في أسمرا (2005)، والذي تضمن حق تقرير المصير، لكن ذلك لم يكن إلا استجابة لمطلب الحركة الشعبية التي هي عبارة عن تحالف عريض يضم وحدويين وآخرين انفصاليين، ونزولاً عن مقرراتها التي اتخذتها في مؤتمرها العام بشقدوم. فقول الدكتور غندور «إن بعض الأحزاب السياسية قد طرحت قضية تقرير المصير منذ وقت مبكر»، أي قبل أن يطرحها المؤتمر الوطني، قول يخالف الحقيقة ويعتدي على الذاكرة التاريخية للشعب السوداني، أو يحاول مصادرتها لصالح تبرئة حزبه من «الجرائر التاريخية» والكوارث التي قد تترتب على انفصال الجنوب إذا حدث. وهي محاولة قطعاً مكتوب لها الفشل لأن كل تلك الوقائع التي ذكرها وحاول التأريخ لها موجودة، في أضابير الأرشيف والمحفوظات بدار الوثائق المركزية، ويمكن ببساطة الرجوع لها ونبشها وتصويرها ونشرها بين الناس، حتى تطَّلع عليها تلك الأجيال التي لم تكن قد شبت عن الطوق أو لم تولد بعد قبل العقدين الأخيرين اللذين يمثلان عمر «الإنقاذ». والقول الفيصل- عندي- في كل ذلك، أي تحمل التبعة التاريخية لجريرة الانفصال إذا وقع، هو النظر إلى «البرامج السياسية» للفرقاء، بين تلك التي تدعو للسودان الديمقراطي الموحد والمستوعب للتنوع الإثني والثقافي والديني لكل أهل السودان، وتلك التي تريد سوداناً عربياً- إسلامياً خالصاً، يجعل من «الآخر- الوطني» ملحقاً بدولة دينية ذات ثقافة عربية هم غرباء فيها برغم حملهم لجنسيتها وجوازات سفرها، وهذا هو بالضبط المدخل الحقيقي للانفصال وليس متى وقّع هذا أو ذاك أو لم يوقع على حق تقرير المصير.