تترك الأحزاب وقادتها ومرشحوها في الانتخابات -عادة- أمر إختيار الشعارات لذكاء القواعد الشعبية صاحبة الصوت الأعلى، وأقصد بالشعارات تلك المفردات الجزلة المتناغمة والموزونة التي تكون أقرب للهتاف التشجيعي، مثل (الفانونس حرق القطية) وغيرها مما تحتفظ به الذاكرة الشعبية، والشعارات دائماً ما ترتبط بالرمز الانتخابي بحيث ينبني على ذلك الهتاف أو الشعار. حكى لي سيدي ووالدي المغفور له بإذن الله الاستاذ محمود أبو العزائم أنه وبعد الحملة التي قادها المرحوم يحيى الفضلي ضد السيد علي الميرغني -رحمهم الله جميعاً- سحب الختمية تأييدهم للحزب الوطني الاتحادي فأسسوا حزباً جديداً باسم حزب الشعب الديموقراطي بقيادة الشيخ علي عبد الرحمن لكن الحزب كان يفتقر الى القيادات ذات البعد الشعبي باستثناء الشيخ علي عبد الرحمن، وكان كل جانب من الجانبين يزعم لنفسه أنه صاحب الأغلبية، وسرعان ما جاء المحك عند أول انتخابات جرت بعد الانقسام، اذ كانت هناك دائرة مقفولة للحزب الوطني الاتحادي وهي دائرة الخرطومجنوب التي كان الفوز فيها حكراً للدينمو السيد يحيى الفضلي، وقرر الدينمو - وهذا لقبه المحبب- أن يخوض الانتخابات في الدائرة التي يفوز فيها على الدوام، ودفع حزب الشعب الديموقراطي بجار الاستاذ يحيى في السكن لينافسه على ذات الدائرة وهو المرحوم محمد أمين حسين المحامي، وينافسهما معاً مرشح الأخوان المسلمين الاستاذ صادق عبد الله عبد الماجد أمد الله في أيامه وقد جاءت رموز المرشحين الثلاثة كالآتي: يحيى الفضلي-رمز الديك، محمد أمين حسين-رمز الفأس، وشيخ صادق-رمز الزجاجة وقد كان هذا الرمز -الزجاجة- موضع تندر وطرافة إذ أن الزجاجة كانت تأخذ شكل البيرة.. وقد سعى الحاج مضوي والشيخ سراج مع نخبة من قيادات الخرطومجنوب الى توحيد الصف وبعدم ذلك فانهم لن يمنحوا أصواتهم لأي من المرشحين الاثنين يحيى الفضلي ومحمد أمين حسين وقد نفذوا تهديدهم، وكان عدد الأخوان المسلمين قليلاً للدرجة التي لا يؤبه بها لهم وكانوا يسّيرون المواكب ويقفون أمام منزل المرحوم يحيى الفضلي ويهتفون: (رمز الديك ما بنديك)، وكان هم السيد علي الميرغني إسقاط السيد يحيى الفضلي في الدرجة الأولى لذلك سخر مريديه لشراء كل قماش أبيض في أسواق المدينة ليصبح لافتات تنتشر في الشوارع الرئيسية والفرعية مكتوب عليها: (الفأس رمز البأس) انتخبوا محمد أمين حسين، وكانت تلك اللافتات المنتشرة مزعجة لفريق يحيى الفضلي الذي كان حزبه يعاني من قلة الموارد ومصر قد أوقفت إعاناتها له بعد أن أعلن الاستقلال بديلاً للاتحاد وتحدث بعض زعماء الكبابيش بأن يمدوا الحزب بألف جمل لخوض المعركة الانتخابية وهذا لم يحدث، وكان الأمر مزعجاً الى أن تدخل الشيخ المرضي المعروف بحدة الذكاء والدهاء والحكمة، وقال: (قليل من الصبر)، وكان ينوي إفشال مخطط السيد علي الميرغني لانجاح حملة محمد أمين حسين الانتخابية التي غمرت الدائرة في الخرطومجنوب وما حولها باللافتات الضخمة وسأل شيخ المرضي الاستاذ يحيى الفضلي إن كان لديه بعض المال ومد الأخير حزمة من الجنيهات وأخذ بقية الحضور يدفعون مساهمتهم التي ما كانوا يعرفون كيف ستقضي على حملة محمد أمين حسين، وهمس شيخ المرضي في أذن أحد الشباب الذي عاد بعد أقل من ساعة ومعه مجموعة من الشباب يحملون كراتين البوهية الزرقاء والفرش، وقد كانت لافتات محمد أمين حسين مكتوبة باللون الأزرق، وعندما أليل الليل خرج الشباب، وعادوا حسب توجيهات شيخ المرضي مع خيوط الفجر الأولى ليفاجأ كل أهل الدائرة في الخرطومجنوب وما حولها وكل السودان بتغيير مذهل في لافتات الدعاية الانتخابية، فقد مر عليها الشباب ليلاً وأضافوا (نقطة) الى (باء) البأس لتصبح (ياء) ولتقرأ اللافتات كلها: (الفأس رمز اليأس).. انتخبوا محمد أمين حسين.. وكانت ذات الأيدي التي علقت تلك اللافتات تتسارع وتتبارى في إزالتها.. انتخابات