لم يكن عام 2025 عامًا عابرًا في حياة السودانيين، بل كان عامًا مكثفًا بالدروس، كثيفًا بالتجارب، إلى الحد الذي شعرتُ معه أن ما مررتُ به كان يمكن أن يستهلك عمرًا كاملًا، لولا أن الله اختصر لي الطريق. عامٌ مضى، ويبدأ الآن عام 2026 ليكون العام الرابع في عمر الحرب؛ فترة تعلّمنا فيها أن الوقوف بعد الانكسار ليس شجاعة استثنائية، بل ضرورة حتمية للبقاء، وأن النجاة ليست حدثًا طارئًا، بل قرار يُتخذ كل يوم، بصمتٍ وعنادٍ وأمل. علينا أن نفخر بأنفسنا رغم كل شيء، لا لأننا لم نهتز أو ننكسر في لحظة ما، بل لأننا انكسرنا وما زالت لدينا القدرة على الوقوف. لأننا نواصل المضي بثبات وثقة، رغم ثقل الخيبات، كما يفعل اليوم كثير من السودانيين... بل كما يفعل كل السودانيين الوطنيين؛ شركاء في الألم كما هم شركاء في الأمل والعمل، في الهم والغم، في التوقعات التي خذلتهم، وفي الخيبات التي لم تُسقطهم، وفي الترقب الطويل لعودة وطن طال غيابه وانتظاره. وطنٌ فقد ملامحه التي نعرفها ونألفها، وبقيت منه جذور متعبة تبحث عن طوق نجاة. وطنٌ غني بالثروات والقدرات، محاط بالتربص والتوجس، لا ينقصه شيء بقدر ما ينقصه بشر كُثُر يحبونه بصدق، ويحبون أنفسهم فيه. السودانيون اليوم لا يبحثون عن بطولة زائفة، ولا عن موتٍ مُقدّس، بل عن وطن يمشون على أرضه دون أن تجرحهم الأشواك؛ مكان يجمعهم ويقبلهم كما هم، بكل اختلافاتهم وأعراقهم وألوانهم ولهجاتهم وثقافاتهم ومعتقداتهم. وطن يُعاش فيه، لا يُستعد فيه كل صباح لارتداء الموت لباسًا باسم التضحية، فقد اكتفى الناس من الدماء، واكتفوا من تضحيات فاقت طاقة البشر والحجر. وفي هذه اللحظة السودانية شديدة القسوة، حيث تتقاطع الحرب مع النزوح، والفقد مع الانقسام، لم يعد الألم تجربة فردية معزولة، بل صار حالة عامة، يعيشها الناس بوجوه مختلفة وجرحٍ واحدٍ عميقٍ بحاجة إلى الالتئام. ما نمرّ به اليوم، كأفراد وكوطن، ليس أزمة عابرة، بل اختبار طويل لمعنى الصبر، ومعنى الانتماء، ومعنى أن تختار الحياة رغم كل ما يدفعك للاستسلام. في هذا التشابك بين الخاص والعام، يصبح الوجع الشخصي مرآة لوطنٍ كامل، وتغدو النجاة الفردية فعل مقاومة صامتة في وجه الانهيار. على مستوى الفرد، نحن بحاجة إلى الإيمان بأن الساحة تتّسع لكل صاحب موهبة وفكرة، وأن نجاح شخص لا يعني فشل غيره؛ على العكس، فالنجاح مُحفّز ومُعدٍ كما السعادة. إن لم نتوقف عن محاربة الناجحين، ستبقى البيئة الطاردة قادرة على هزيمة كل المشاريع الواعدة مهما كانت عظيمة ومفيدة. فالحقد مقبرة الأفكار، ولا جدوى من الزراعة في أرضٍ بور. وأنا على يقين أن بعض الطاقات السالبة التي تُبذل لإحباط أو تثبيط شخص أو كيان ناجح، لو وُجّهت للعطاء، لكان كافيًا لأن ينشغل كل فرد بعطائه، ويبدأ نجاحه الخاص، ويصبح ترسًا فاعلًا في عجلة الإنتاج. هكذا، فقط، تُبنى الأوطان: عندما يبدأ التغيير على مستوى الأفراد، عندما نتوقف عن (الردم) ونركّز على البناء. فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، والرغبة فيه هي حجر الزاوية ونقطة البداية. ومن خلال تجارب عديدة، وصلتُ إلى خلاصات أراها اليوم أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. تعلّمتُ أن الأبواب مهما أُغلقت، يمكن دائمًا فتح نوافذ للفرح، وأن في تجاهل الصغائر حكمة، وأحيانًا يكون في الصمت نجاة، وأن من تَرَكَ مَلَك، ومن تخلّى كسب قوة لا يضاهيها شيء. لكن هنا يجب أن نكون واعين: ماذا نترك؟ وعن ماذا، ومن، نتخلّى؟ وأصبحتُ مؤمنة بأن لا شيء يعلّم الإنسان على مَهَل مثل الألم، وأن خسارة كل شيء لا تعني شيئًا إن لم تكسب نفسك، وأن خسارة المال معوّضة، ما دام ثمنها هو الحرية. أدركتُ أن الأفعال وحدها هي المقياس الحقيقي لكل شيء، وأن كل حروف الكون لا تكفي لإثبات صدقٍ ما لم تُسند بفعلٍ وموقف. وأن الثقة غالية لا يجب أن تُمنح دون اختبار، وأن المؤذي لا يستحق سوى الشفقة، وأن المتآمر ضعيف وهشّ مهما ادّعى القوة، وأن الثرثرة قرينة الخطأ، بينما الشخص الصادق لا يُحدث ضجيجًا أبدًا، كالفارغين. ومن يرسم دور الضحية بإتقان، غالبًا ما يكون مجرمًا بقدرات تمثيلية بارعة. في نهاية المطاف، الأقنعة تسقط مهما طال الزمن، ولا ديمومة إلا لما هو حقيقي وصادق. لهذا، أتمسّك فقط بأولئك الذين اختاروا صحبتي دون غَرَضٍ أو مَرَض، وأؤمن، بالمقدار نفسه، أن الأوطان لا تُبنى إلا بأناس يشبهونهم: صادقين، متواضعين، ناشئين على القيم والفضيلة والأخلاق قبل الشهادات والألقاب، ومؤمنين بالحق في الحياة أكثر من الموت. هذا النص ليس حِكمًا مُعلّبة، بل بقايا تجارب موجعة، ونجاة مستحقّة، ورغبة صادقة في وطن لا يُقصي أبناءه، ولا يطلب منهم المزيد من الدم ليبرهن أنه يستحقهم. وطنٌ يكفيه أن يُحَب، وأن يُترَك لأبنائه المخلصين... ليعيشوا فيه بسلام، لكن السلام، حقًا، ضريبته باهظة...باهظة جداً.