صباح الجمعة الماضي، رن هاتفي فأيقظني ونزعني من رؤيا منامية كنت مستغرقاً فيها، رؤيا غريبة، والأغرب منها هو أن المتصل كان شخصاً من اثنين كنت أتحدث إلى أحدهما وأحاوره في ذلك الحُلم، كان المتصل هو خالد علي بابكر، ابن عمدة الكوَّة الراحل رحمه الله، رأيته وكأنه كان في رفقتي، كما هي العادة عندما أزور بحر أبيض، وكان من أحاوره هو الأخ الصديق دكتور عبد الباقي الجيلاني وزير الشؤون الإنسانية والوزير الولائي السابق في النيل الأبيض، وكان موضوع الحديث الموجه إليه في تلك الرؤيا هو «إحياء الجاسر». رأيت في ما يرى النائم أنني أقول له: أخي عبد الباقي، لماذا لا تفعلون شيئاً من أجل حل معضلة «ردمية الجزيرة أبا» التي أماتت الجاسر لأكثر من نصف قرن من الزمان، لماذا لا «تركِّبون» مواسير تمر تحت تلك «الردمية» حتى تمر المياه عبرها ويأخذ «الجاسر» مجراه الطبيعي، فيُحيي تلك المنطقة الواقعة شرقه من الموات ويعافيها من الأمراض. وكان خالد حضوراً وشاهداً على ذلك الحديث المنامي. لم أرد على اتصال خالد فوراً، وعدت مستغرقاً في نومي، حتى صحوت على اتصاله مرة أخرى، فرددت عليه وتبادلنا السلام، فحكا لي هو سبب اتصاله وكان يريدني أن أحضر عقد زواجه الجديد في مدينة الثورة مساء الجمعة ذاتها. قصصت عليه ما رأيته في المنام، وأبلغني أن د. عبد الباقي اليوم في الجبلين لأداء واجب عزاء وأنه وعده بثلاثة خراف تذبح في مناسبة الزواج. بعدها اتصلت بالأخ عبد الباقي وحكيت له الرؤيا ومصادفة اتصال خالد في ذات لحظة الحلم. لم يندهش عبد الباقي، الذي أعلم أنه من «الذين يؤمنون بالغيب وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»، والذي كان يسكن «الخلا والصَيْ» عند حافة الجبل قريباً من مسيد الشيخ الماحي أبو الدخيرة، عندما كان مهندس كسَّارات الحجر التي تزود مصنع ربك للأسمنت بما يحتاجه من حجارة، وهناك «تحوَّر» وأخذ الطريق على يد الشيخ أبو الدخيرة رحمه الله ورضى عنه وأرضاه. لم يندهش عبد الباقي، بل رد عليّ بما أثلج صدري وقرَّ عيني قائلاً: هذه «رؤيا صالحة»، وإن شاء الله ستتحقق قريباً، اكتب لي طلباً في هذا الصدد، حتى نتخذ قراراً ونطلب من إحدى المنظمات الإنسانية العاملة في البلاد تمويل المشروع، وأعلمني أن موضوع هذه «الردمية» كان يشكل له هو الآخر هاجساً قديماً. في اليوم التالي- السبت- اتصلت بالأخ الصديق دكتور الفاتح محمد سعيد، وزير الدولة بوزارة الطرق والجسور، وقصصت عليه قصة ذلك الحلم وما دار بيني وبين د. عبد الباقي الجيلاني، فقال لي هو الآخر، هذه «رؤيا صادقة»، وإننا من جانبنا في وزارة الطرق والجسور سنقوم بدورنا الفني لإنجازها، ودعاني لحضور افتتاح برج الهيئة العامة للطرق والجسور على شارع الغابة بالخرطوم، حتى ألتقي مدير عام الهيئة في هذه المناسبة السعيدة، وبالفعل ذهبت إلى البرج في الموعد المحدد، وبتوفيق لافت أيضاً كان أول من رآني وأنا أهم بدخول البرج هو د. الفاتح، فنادى عليَّ وسلَّم وقدمني للرجل الجالس على يمينه وكان هو المهندس حامد محمود وكيل، مدير عام الطرق والجسور، مثلما قدمني إلى العميد فيليب طونق وزير الطرق والجسور وعرفني بهم وأبلغ المهندس وكيل بغرضي، وهو «إحياء الجاسر» بجعل المياه تمر من تحت «ردمية» الجزيرة أبا، ووجدت المهندس وكيل، بحكم الاختصاص، عالماً أيضاً بما يجب فعلهُ، فرد بقوله إن ذلك يمكن أن يتم فنياً من خلال تصميم مواسير كبيرة لتمرير المياه بواسطة «شركة جياد» ونقلها إلى هناك وإنزالها في الموقع، وذلك بعد معاينة الموقع وتحديد المواصفات، ومن ثم أبلغه الفاتح أن التمويل سيكون مناصفة بينكم في الهيئة وبين وزارة الشؤون الإنسانية، بعدها انتظرنا قليلاً لحضور حفل افتتاح المبنى الجديد الذي دشنه مساعد رئيس الجمهورية د. نافع علي نافع، وتحدث فيه كل من الوزير فيليب ومدير الهيئة حامد وكيل، معددين إنجازات الطرق والجسور التي زادت إلى أكثر من عشرة أضعاف خلال السنوات الأخيرة. لفائدة من لا يعرفون جغرافية بحر أبيض والجزيرة أبا، لابد من توضيح أن النيل الأبيض عندما يصل مدينة كوستي ينقسم إلى فرعين، فرع رئيسي وآخر أصغر، مكوناً ما يعرف بالجزيرة أبا، يمر الفرع الرئيسي غربها ويمر الفرع الآخر شرقها ويسمى «الجاسر»، حتى يلتقيا مرة أخرى قرب حاضرة الشوال. وفي وقت ما- منتصف ثلاثينيات القرن الماضي- قررت البعثة الاقتصادية المصرية زيارة الجزيرة أبا، فأشار السيد عبد الرحمن المهدي طيب الله ذكره على أنصاره بردم الجاسر حتى يتمكن الوفد من العبور إلى داخل الجزيرة أبا واستقباله هناك، وبالفعل قام الأنصار بهمتهم المعهودة بعمل الردمية وتمهيد الشارع في أيام قليلة وتمكن الوفد من العبور. كان للردمية فوائدها الجمة، مثلما ترتبت عليها أضرار لم ينتبه لها الناس في ذلك الحين، فهي من ناحية ربطت الجزيرة أبا مع البر ويسرت المواصلات وحركت الاقتصاد والتبادل السلعي بين منتجات الجزيرة، خصوصاً الخضر والفواكه والقطن، وما تحتاجه الجزيرة من بضائع مصنعة يستهلكها السكان، ولكن من الناحية الأخرى خلقت مشكلة بيئية معقدة، حيث قطعت مجرى الجاسر وحبست المياه خلف الردمية، خالقةً خزاناً أو ميعة كبيرة خلفه، ومجففة للنهر شمالها في أوقات الصيف والشتاء، ولا يعود ممتلئاً إلاّ في فصل الخريف عندما يفيض النهر الرئيسي وتدخله المياه «بحركة عكسية» من الشمال إلى الجنوب من قرب الشوال. الأضرار التي ترتبت على ذلك تمثلت في حرمان المشاريع الزراعية الواقعة شرق الجاسر ويعتمد ريُّها على مياهه لفترة طويلة من العام، وحرمان سكان القرى الواقعة على ضفته الشرقية من المياه النظيفة، فأصبحوا على حد وصف د. عبد الباقي: كالعير التي يقتلها الظمأ والماء على ظهرها محمول. هذا بالإضافة لما تخلِّفه البرك الآسنة التي يتحول إليها النهر في هذه الأوقات من مشكلات بيئية وصحية أقلها انتشار الملاريا والبلهارسيا والدوسنتاريا. أما بالنسبة للمنطقة الواقعة جنوب تلك الردمية، من قرية زينوبة وما حولها وحتى مدينة ربك، فحدث ولا حرج عن التدهور المريع الناتج عن انحباس المياه وبالتالي تراكم مخلفات صناعة السكر في عسلاية وكنانة، ما شكل بيئة ملوثة بشكل استثنائي. والخلاصة هي أن «إحياء الجاسر» بتدفق مياهه عبر مجراها الطبيعي حتى يلتقي مع الفرع الرئيسي مرة أخرى في رحلتهما التاريخية شمالاً يجنب المنطقة كل هذا الذي ذكرنا، فيحيي الزراعة طوال العام وفي مختلف الفصول، ويوفر الماء النظيف للسكان، وفوق هذا يحمي الجزيرة أبا من غائلة الرعي العشوائي والقطع الجائر الذي دمّر غاباتها التاريخية وحولها إلى صحراء، بعد أن كانت جنة مورقة تستمطر السماء كل عام بغزارة، وتفيء بخيراتها على أهلها والمناطق المجاورة، بما في ذلك الخرطوم وأم درمان، حيث كانت «الموردة» تستقبل منتجاتها بانتظام كل صيف من خشب البناء وحطب الحريق، الذي كان يتم قطعه وفق تصديقات رسمية وخطط حكومية معلومة. فأرض الجزيرة لخصوبتها الاستثنائية يمكن أن تستعيد خضرتها وغاباتها خلال سنوات قليلة، ويمكن أن تتحول إلى مركز استثمار وسياحة لا نظير له، فقط من خلال إنجاز هذا المشروع القليل التكاليف الكثير الفوائد. فنرجو أن تتحول تلك «الرؤيا» التي أصبحت «قراراً وزارياً» إلى واقع يمشي بين الناس أو يمشي عليه الناس إلى ما فيه خيرهم ونمائهم واستقرارهم.