الخميس كان موعدنا للبدء بتنفيذ الخطوة الأولى على طريق «إحياء الجاسر».. ذلك الإحياء الذي أثارته رؤيا منامية قد يذكر القراء أننا تناولناها هنا في النصف الثاني من يناير الماضي تحت عنوان «إحياء الجاسر.. رؤيا أصبحت قراراً وزارياً» حكيت فيه تلك الرؤيا التي جمعتني مع الأخ الدكتور عبد الباقي الجيلاني، ورأيت فيما يرى النائم أنني أطلب إليه العمل من أجل حل «مشكلة الجاسر» المتمثلة في «ردمية» الجزيرة أبا التي توصلها بالبر والطريق القومي والتي قطعت تيار الجاسر «الفرع الشرقي لبحر أبيض» الذي يشكل الجزيرة أبا، فخلقت بحيرة آسنة جنوبها تراكم فيها التلوث الناجم عن مخلفات الصناعة من مصنعي سكر عسلاية وكنانة بالإضافة الى مصنع أسمنت ربك، مثلما خلقت مشكلة دائمة على امتداد الجاسر شمالها، فأصابت السكان القاطنين شرقه من الدبيبات وحتى الملاحة قرب الشوال بمشاكل متداخلة ومستديمة تمثلت في جفاف أجزاء كثيرة منه صيفاً فتتوقف المشاريع الزراعية عن العمل ويعاني الناس من المياه الآسنة والملوثة وترتفع الإصابات بالملاريا والبلهارسيا والتايفويد وتسهل دخول الرعاة إلى الجزيرة حيث يمارسون الرعي غير المنظم فيصطدمون بالمزارعين ويعيثون في الغابات قطعاً جائراً، ما حول تلك الجزيرة الوارفة الظلال إلى صحراء جرداء. وبما أن د. الجيلاني هو أحد أبناء المنطقة ويعلم حقائق الواقع المزري الذي يُعانيه أهله هناك، فقد رأى في ذلك الحُلم «رؤيا صالحة» على حد تعبيره، وأبدى استعداده من خلال موقعه كوزير بوزارة الشؤون الإنسانية لأن يحرك بعض المنظمات الإنسانية المهتمة بشؤون البيئة لتوفير التمويل لإنجاز هذا العمل، ورأى أن اتصل بوزارة الطرق والجسور التي يقوم على أمرها الأخ الصديق د. الفاتح محمد سعيد أحد أبناء المنطقة، الذي تحمّس بدوره لإنجاز هذه المهمة الضرورية التي تنقذ كماً هائلاً من سكان المنطقة في كوستي وربك والجزيرة أبا وكل القرى والمشاريع الواقعة شرق الجاسر، وكان ثلاثتنا د. عبد الباقي ود. الفاتح وشخصي قد التقينا مساء الاثنين بمركز راشد دياب الثقافي لحضور حفل تكريم الصديق نصر الدين شلقامي الناشط البيئي المعروف وأحد زملاء الدراسة منذ «كوستي الأهلية الوسطى»، وذلك بمناسبة منحه الدكتوراه الفخرية من جامعة الإمام المهدي ومقرها كوستي أيضاً. في ذلك اللقاء طلبت من د. الفاتح ود. عبد الباقي أن يفعّلا قرارهما الوزاري بإحياء الجاسر، وضرب لي الفاتح موعداً مع مسؤولي الهيئة القومية للطرق والجسور ليكون الخميس موعدنا لزيارة الموقع وتحديد المطلوب لتمرير مياه النهر من تحت الردمية. صباح الخميس صحوت باكراً واتجهت إلى مقر الهيئة الجديد على شارع الغابة والذي افتتح رسمياً في 17 يناير الماضي، وكان عليّ الانتظار لأكثر من ساعتين حتى نبدأ التحرك باتجاه الجزيرة أبا، فقد تصادف أن أحد أفراد الفريق المهندس «مساح» محمد أحمد إيدام قد تأخر في الوصول إلى مقر الهيئة بسبب انقلاب شاحنة على جسر الفتيحاب وعطل المرور مما اضطر الناس الى دخول الخرطوم راجلين. وبوصوله التأم شمل الفريق المكون من المهندسين أحمد عثمان الشيخ وعبد الحافظ محمد عثمان والسائق القدير علاء الدين عبد السلام، فتحرك ركبنا في نحو الحادية عشرة باتجاه تلك البقعة المباركة، التي اختارها الإمام الأكبر محمد أحمد المهدي عليه السلام منطلقاً لثورته التي وحدّت السودانيين من كل حدب وصوب ورفعت ذكر البلاد في العالمين، وأسست أول دولة مستقلة في تاريخ أفريقيا والعالم العربي في العصر الحديث، وتشكلت من خلالها الهوية القومية السودانية الحديثة. بعد الثانية ظهراً بقليل وصلنا إلى نقطة التقاء الطريق الأسفلتي الذي يقود إلى الجزيرة أبا، وكان في انتظارنا هناك بعض أهل المنطقة الذين رافقونا بسياراتهم إلى «الردمية»، الجسر الترابي، الذي مضى على إنشائه 75 عاماً بالتمام والكمال، إذ يعود تاريخه إلى عام 1935 عندما طلب الأمام عبد الرحمن المهدي طيب الله ذكره من الأنصار «ردم البحر» حتى تتمكن البعثة الاقتصادية المصرية الزائرة من دخول الجزيرة أبا للوقوف على المشاريع الزراعية التي بدأ يقيمها هناك، وقد فعل الأنصار، بحماسهم المعهود، ما أمروا في أيام معدودات، ومنذ ذلك الحين انقطع نهر الجاسر وتوقّف تياره، ومع الزمن ونشوء الصناعات تحول ذلك الانقطاع الى المشكلة المركبة التي حكينا تفاصيلها فيما سلف. كانت لحظة وصولنا إلى الردمية، لحظة فرحٍ غامر لممثلي مواطني المنطقة الذين كانوا في استقبالنا، وبدأوا في إفادة الفريق الهندسي بأبعاد المشكلة، التي أفصحت عن نفسها فوراً، حيث كانت روائح التلوث الكريهة تهب علينا من البحيرة الواسعة والآسنة جنوب الردمية، وكان لون الماء فيها مائلاً إلى السواد بينما تجد الماء شمالها يتخذ اللون المعروف الساطع البياض والذي أخذ منه «بحر أبيض» اسمه، ذلك لأن الجزء الواقع شمال الردمية يمتليء من الفرع الرئيسي للنيل الأبيض في موسم الفيضان بحركة عكسية من الشمال إلى الجنوب، تبدأ من مدينة الشوال وتنتهي عند الردمية. بدأ الفريق عمله بالرغم من حرارة الطقس، وتفاعلوا مع المعلومات التي استقوها من ممثلي المنطقة بحماس لافت، فبدأوا بمسح الطول والعرض ونزلوا إلى الماء لقياس الأعماق، حتى استعنا أخيراً بأحد قوارب الصيد التي تبرع أصحابها بحمل المهندس إيدام ومسطرته الطويلة ذات الأمتار والتجوال به على كل المناطق التي رأى المهندسون ضرورة قياس أعماقها، من أجل تصميم المواسير بالأحجام التي تسهل مرور التيار من الجنوب إلى الشمال في مساره الطبيعي. كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة عندما أنجز الفريق عمله، ومن ثم اتّجه ركبنا جميعاً إلى ربك لتناول غداء عمل في منزل الأخ التجاني أحمد تركي أحد أبناء المنطقة المهمومين بمشكلاتها، وكان في استقبالنا هناك جمع من كرام القوم يتقدمهم معتمد ربك الدكتور صالح محمد علي والأستاذ محمد حامد مدير الوحدة الإدارية للجزيرة أبا والسيد حامد النعمان العوض عضو اتحاد المزارعين، والسيد فضل الله الحاج جموعة رجل الأعمال وسر تجار مدينة ربك والسيد الطيب بخيت أحد كبار المزارعين، وآخرون كثرٌ جاءوا ليعبروا عن تضامنهم وسرورهم ببداية هذه المهمة التي طال انتظارها. معتمد ربك الدكتور صالح، وبعد أن استمع إلى شرحنا لما تم حتى الآن من اتصالات وتجهيزات لإنجاز المشروع، أبدى من جانبه استعداداً كبيراً لتيسير العمل، وساهم بأفكار مهمة في كيفية تسيير حركة السكان من الجزيرة أبا خروجاً منها ودخولاً إليها في الفترة التي تقطع فيها الأشغال الهندسية الحركة عبر الردمية، والتي كانت ضمن شواغل المهندسين ومحاولتهم لابتكار حلول تسهل تلك الحركة أثناء العمل، فرأى استخدام البنطون أو اللنشات خلال تلك الفترة القصيرة التي لن تزيد على الشهر، وفي النهاية تركنا له اتخاذ القرار المناسب في هذا الصدد، وتكفل بذلك مشكوراً. وكذلك صادفنا اهتماماً بالغاً من د. سلمى عبد الرحمن علي طه الناشطة البيئية التي ما علمت بتحركنا إلا واتصلت بنا ونحن على الطريق تشد من أزرنا، وبعثت لنا في ربك بمجموعة من الكتيبات والدراسات التي أنجزتها «جمعية الطيب علي طه لحماية البيئة» التي ترأسها. خلاصة القول إن هذه الرحلة العملية الميمونة، والتي عدت منها متعباً وعليلاً، تركت في نفسي أثراً طيباً واقتناعاً جازماً بذلك الحديث الشريف المنسوب إلى نبينا الأعظم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: «الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة».