جرح آخر يضاف لجروحنا التي لا تندمل.. خمس عشرة طعنة سددها فتى على جسد خطيبته في أم درمان لم ترعبه صرخات الفتاة ولون الدم ورائحة الموت.. مضى الفتى كثور هائج ووحش يفترس صيده في الغابة لتصعد روح فتاة أم درمان كما صعدت روح إشراقة في مستشفى الخرطوم قبل شهور معدودة.. وكلا الفتاتين ضحيتان لعنف تمدد واستشرى في وطن نزفت دماء أبنائه في الجنوب بفعل السياسة.. ونزفت دماء أبنائه في الغرب لذات السبب.. وحينما جفت الدماء في الأطراف ارتحلت للوسط والمركز الثقافي والفني والرياضي.. وأضحى الحب بالسكين بعد جفاف نهر الإبداع والتعبير بالآهات و(الكلام) الذي يمزق الأكباد والأحشاء بالحروف.. لا السكاكين والمطاوي وكل أدوات القتل المباحة في الأسواق!!.. لم تنجب الأرض شاعراً تغنى بالحروف الدامعة مثل محجوب سراج.. ولم يشدو مغنٍ للخيانة مثل الراحل إبراهيم عوض «تحرمني دون الناس ابتساماتك».. «بحروف من نار ناطقة كلماتك».. ولم يحمل النعمان على الله سكينه ويغرزها في أحشاء من أحب وهو يكتب «بعت العمر عشان حياتك وباقي العمر عليّ دين».. لو كان النعمان على الله من وحوش هذا الزمان لما تكبد المشاق وسهر ليل أم درمان حتى الصباح يكتب بيتاً من الشعر ويعيد موسقة كلماته.. كان سهلاً عليه أن يلغي من أحب من الوجود على طريقة قاتل فتاة أم درمان وقاتل إشراقة في محفل دراسة الطب والعلم الإنساني الرفيع! لماذا أصبح الحب في بلادنا ب«السكاكين»؟.. ولماذا اصطبغت حياتنا بالعنف اللفظي والعنف المعنوي.. والعنف كان قديماً بين الرجال والرجال واليوم تمدد وأصبح الرجال يقتلون النساء.. هل ضعفوا ووهنوا؟.. أم ثمة دواعٍ وأسباب جعلتنا نقتل «بلقيس» السودان كما قتلت بلقيس في الشام وكان نصيبها من الشعر دامي العينين ما فاض عن حاجة العرب من طنجة حتى بورتسودان.. ومن دجلة حتى عدن، وخلدها نزار قباني في دفاتره التي مزجت العاطفة والوجدان بالضمير السياسي الذي أرهقته الهزائم وأضناه الإنكسار العربي. خمس عشرة سكيناً غرزت في جسد فتاة أم درمانية في التاسع من فبراير، لأن القاتل انتابته شكوك بأن الضحية قد اختارت غيره وتركته لحاله.. فأين نحن من زمانٍ غربت شمسه الى الأبد.. كان فيه إبراهيم عوض يتغنى للفتاة التي أشاحت بوجهها عن من تحب «من قساك ومن قسى قلبك.. إيه نساك يا ناسي حبك» ويجعل إبراهيم عوض من الليل شاهداً على عذابات المحب «يشهد لي الليل وصمتو».. بينما يشهد على قتيل فتاة أم درمان نصل سكينه المسمومة ومتحري القضية وطبيب التشريح وشهود عيان على سقوط النخوة وسقوط مملكة الحب الحقيقي وشهود بزوغ فجر عنيف دامٍ تقتل فيه بنات أم درمان حسرة لتفشي العزوبية.. وتقتل فيه بنات أم درمان بسكاكين من أحبتهم قلوبهن.. ولكن مَنْ منا كان اليوم بلا بذرة عنف مغروزة في قلبه الذي نزعت منه الرحمة والرقة والعفو والغفران.. فإلى أي عصر تقودنا «سكاكين» ورصاص المحبين في بلدٍ كان رجاله يتبادلون الحب بالمناديل والرسائل المكتوبة.. فأصبحوا يتبادلون الحب بالسكاكين المسمومة.