اتفق معظم الكتاب والباحثين في شرقنا العربي والإسلامي على أن الغرب (أوربياً كان أو أمريكيا) لا يزال محكوماً بعقدة التمركز على الصعيد- النفسي لأنه وبحكم اكتسابه لعناصر القوة ومزايا التأثير والانتشار قد احتل بالفعل موقع المركز العالمي وصار الجميع يتعامل معه على هذا الأساس. حين تكون (العولمة) مصدرها المركز الذي أشرنا إلى سماته آنفاً فلا نحسب أنفسنا مجافين المنطق إذا ما ذهبنا في قراءة (العولمة) على ضوء المصادر والعناصر التي تقودها كذلك أهداف (المركز) الذي تنطلق منه.. إبتداءً يمكننا أن نقول وببساطة أن العولمة تعني محاولة إعادة صياغة العالم اقتصادياً وثقافية وسياسياً واجتماعياً وفقاً للرؤى والسياسات التي يتبناها (المركز) المنتج والمحرك لها، إنطلاقاً من مفاهيمه عن الكون والحياة والإنسان، وإذا كان المعنى أو التحديد الشائع لمفهومها يفيد بأنها تمثل أو تعني حرية حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال كذلك الاستثمارات والمعلومات والتنقل بين كافة أرجاء العالم في إطار من الحرية والعقلانية ووحدة الإنسانية، بعيداً عن أي قيد أو أيدولوجية إلا أنه وبعيداً عن هذا التوصيف الرومانسي والذي يبدو (مغرياً) للوهلة الأولى لم يكن أمام الدارس أو المتابع لتاريخ هذه الظاهرة وما تحمله في صيغها الجديدة من أفكار واتجاهات، إلا أن ينتهي إلى حقيقة أساسية وهي أن العولمة لا تمثل في جوهرها إلا آخر ما بلغته الرأسمالية من تطور، ولا تعبر في النهاية إلا عن مصالح وأهداف تلك الرأسمالية ولا نريد بهذا أن نتجاوز الإشارة إلى المعنى الأول للعولمة، وما كان يتمخض من حركة القوى والامبراطوريات الكبرى التي شهدها التاريخ على اختلاف المركز، ونؤكد بهذا أن العولمة ستظل إمكانية قائمة لكل من يمتلك القوة بكل معانيها وكذلك عناصر التأثير. القارئ أو المتابع لمسارات تيار العولمة الغربية يخلص إلى أنها ليست ظاهرة فجائية بل هي عملية تدريجية بدأت منذ الكشوف الجغرافية الأولى وما تلاها امتداد استعماري وضع البلدان المستعمرة وشعوبها في حالة من التعامل والتعاطي مع ثقافة ولغات الغرب-(مركز العولمة)- كذلك بعض الأنماط والسلوكيات السائدة، وإذا كان البعض يؤرخ لبروز العولمة ببداية تسعينيات القرن الماضي على اعتبار الزمن الذي ظهرت فيه على نطاق واسع وعميق، فإننا يجب ألا نغفل حقيقة أن العولمة ما كانت لتبرز على هذا النحو لولا عدة عوامل تظافرت وتسارعت، أهمها ما تم في سياق التداعي الذي ترتب على الفعل التاريخي- للقوى العظمى أو ما سميناه آنفاً (بالمركز) وفي هذا يقول الكاتب والباحثالدكتور الصبري حافظ في كتابه (العولمة مصادرها الفكرية ومكوناتها)- ( إن حالة الغزو الاستعماري والتراكم الرأسمالي والنمو العالمي والاقتصادي ومن ثم تدويل الرساميل ووحدة الأسواق المالية وتداخلها ناهيك عن- المتغيرات العميقة في سوق العمل وأساليب الإنتاج وما رافق ذلك بروز لمؤسسات مالية دولية وظهور لشركات عملاقة- عابرة للقارات كما أن بعض تلك العوامل تم لسقوط قوى التجاذب والتوازن العالمي، والتي كانت تحول دون العولمة السياسية والعسكرية وما انتهى إليه ببروز القطب الاحادي العالمي، الذي أخذ ينفرد باتخاذ القرار.. نتناول العولمة على الصعيد السياسي لنقول إن نظام القطبين السابق قد أوجد توازناً بين القوى العالمية ووفر للعديد من الدول والشعوب الضعيفة ولحركاتها التحررية غطاءً ومجالاً للحركة والمناورة، وأوجد فرصاً لاسترداد بعض من ثرواتها وحقوقها، كما سمح بظهور تكتلات دولية دعمت ذلك التوازن وتلك الفرص، إلا أنه ومع انهيار المنظومة الشيوعية وانفراد القطب الواحد بالقرار امست تلك الشعوب وحيدة وشبه عارية أمام نموذج سياسي يضع نفسه بصفته الخيار الوحيد الذي لا مفر من الارتباط به، أو التكييف (إيجاباً) مع استراتيجياته .. من هنا يسجل للعولمة وعلى الصعيد السياسي سعياً ملحوظاً باتجاه إحداث التغيير في المناهج وصيغ التعامل في العلاقات الدولية وإحلال مبادئ وقواعد وشروط جديدة تنفي من خلالها أية سياسة لا تستجيب لمتطلبات الغرب، ولقد مورس هذا السعي عبر مختلف الطرق والأساليب بدءاً بالضغط السياسي ضد الجهات التي تصر على استغلال قرارها واتجاهها أو تلك التي تشكل عقبة في وجه المشروع الغربي أياً كان الموضوع أو الموقع، فلسطينياً أو عراقياً أو افغانياً أو سودانياً مروراً بمحاولة الاحتواء أو ما يسمونه بالتسهيد.. (الجوسياسي) الذي يفضي إلى خدمة العولمة كما هو الحال في ظهور مقولات (العراق الجديد) والسودان الجديد حتى (الشرق الأوسط الكبير) كانوا يريدونه جديداً!. أيضاً مورس ذات السعي في اتخاذ إجراءات العزل أو الحصار أو المقاطعة، وافتعال القضايا الوهمية أو تلك المبررة للتدخل الدبلوماسي أو العسكري في شؤون الدول خاصة تلك التي تصر على الاحتفاظ بخياراتها ومناهجها الخاصة، ناهيك عن وضع دول بعينها في قائمة ما يسمى (بالدول الإرهابية) أو تلك التي ترعى الإرهاب. يقول المرحوم د. محمد عابد الجابري في كتابه (العرب والعولمة) (إن الغرب وفي مرحلته العولمية توغل بما يفوق الكفاية حين جعل الكثير من تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية موضعاً لعملياته.. العولمية على نحو شمل بعض ما يؤكل ويلبس.. ناهيك عما يقرأ ويشاهد ويسمع وفي موجات من التنميط من شأنها تحويل البشر إلى قطيع تسوده ثقافة واحدة وكأن الجميع يعيشون في قرية أوروبية أو أمريكية).. وبلاشك إن الذي ساعد في ذلك هو ما بلغه الغرب من تطور مذهل في مجال الاتصالات والإعلاميات، أتاح لمنتوجاته الثقافية المختلفة أن تصل إلى شتى بقاع العالم، وعلى أجنحة الاقمار الصناعية، وأشرطة الفيديو وشبكات الانترنت، وهو (الغرب) قد سجل بذلك- اختراقاً ثقافياً مهد لأرضية الاختراع أو الاجتياح الاجتماعي. ولقد تمكن الغزو الثقافي في ظل عولمة الاتصال من تحطيم جل الحواجز اللغوية والانضباطية ولم يعد مختصراً ذلك على النُخب بل امتد إلى العامة مستغلاً ب (تسطيح الوعي عبر مشاهد وملاحظات تشوش نظام القيم وتنمط الذوق وتمس السلوك لتجهز على الهوية الثقافية الفردية والجماعية).