الأستاذ الصديق / مصطفى أبو العزائم مداومتي المستمرة لما يرد في عمودكم المقروء «بعد ومسافة» تجعلني أجاهر بالتهنئة بنجاح «الزاوية» واستحواذها وقدرتها على انتزاع القراء، الذين لا يجدون بداً وفكاكاً من التهام سطور «العروسة» سطراً سطراً. رغم أجواء الحزن، وسحائب الألم، التي مازالت تلقي بظلالها القاتمة في «حوش» الإذاعة، منذ رحيل الإذاعيين (عبد الله الأمين) و(عباس ساتي) خلال أيام الشهر الماضي، قرأت بتمعن شديد، سطورك التي أطلقتها في حق الإذاعي الراحل «موسى إبراهيم عبد الله» أحد أركان العمل الإذاعي العتيد، الذي انضمّ أمس الأول لركب الخالدين من أبناء «هنا أم درمان» الذين طواهم الردى، وغيبهم الموت بين أحشائه، فمضوا جميعاً، تاركين خلفهم، أنصع الصفحات، وأندى الذكريات، فكانوا مثالاً يحتذى في البذل والتضحيات، التي جعلت من الإذاعة السودانية منارة سامقة، عالية البنيان، تسكب على حياتنا المجدبة، ألواناً من الألق، وصنوفاً من سحر الثقافة، والأدب، والفن، والجمال، طوال سبعين عاماً، تحدث الأجيال المتعاقبة عن أولئك الرهبان، الذين هاموا على وجوههم، وانقطعوا للتبتل في محرابها الأنيق من زملائنا وأساتذتنا الأفذاذ أمثال التجاني الطيب، صالحين، محمد صالح فهمي، أبو عاقلة يوسف، محمود أبو العزائم، عبد الوهاب أحمد صالح، كمال محمد الطيب، حمزة مصطفى الشفيع، أحمد سليمان ضو البيت، صفاء محمد جرك، علوية آدم، وصفي جبرة، أبو الفضل محمد الحسن، محجوب سلطان، النور موسى، حسن القاسم، كمال جابر، عثمان عوض السيد، هاشم الريح، صلاح الطاهر، شمس الدين عيسى، نجوى الشفيع، وأحمد السيد، الذي غادر الدنيا في شرخ الصبا، ضمن شهداء طائرة المشير الزبير محمد صالح، في فبراير 1998م، وغيرهم من الزملاء والزميلات الذين غابت أجسادهم، وبقيت أرواحهم تحوم بين أستوديوهات الاذاعة وردهاتها، عشقاً، وحباً، وعطاءً. يعتبر المرحوم موسى إبراهيم عبد الله، من أوائل الذين ولجوا أبواب العمل الإذاعي في عام 1948، حيث تدرج في دروب الوظيفة المختلفة، إلى أن وصل إلى نائب مدير إدارة الهندسة والتشغيل، التي كان يرأسها المهندس محمد عثمان إبراهيم، متعه الله بالصحة ولباس العافية، فكونا ثنائياً بارعاً في الاهتمام، وتدريب الأجيال، وفتح الآفاق الواسعة لأصحاب المواهب وعاشقي فنون العمل الإذاعي. اتّصفت حياة الراحل موسى إبراهيم بالحزم، والعزم، والدقة، والمتابعة، وحب المهنة، فكانت الإذاعة بيته الثاني، يدخلها باكراً، ويغادرها عند نهاية ساعات الدوام، ثم يعود إليها ثانية، ولا يبارحها إلا بعد العاشرة مساء، حتى في أيام العطلات الرسمية، كانت له علاقات واسعة مع أهل الثقافة والفن، خاصة كبار الفنانين، فقد ذكر الفنان الراحل عثمان الشفيع أن «الكورال» الذي رافقه في أداء بعض أغنياته كان بقيادة الراحل موسى إبراهيم، وقد ظهر ذلك جلياً في أغنيتي الاستقلال «أحرار أحرار في بلاد حرة، والشعب أختار الاستقلال يا دخيل بره» وأغنية ملامة «لحن الحياة منك». وقد أخبرني الزميل أمير أحمد السيد إن الراحل موسى إبراهيم، يعود إليه الفضل في حفظ أغنيات الحقيبة، فعندما قضت ألسنة الحريق على محتويات مكتبة الإذاعة أيام حكم المرحوم عبود، لجأ إليه المرحوم (فوراوي) يستنير برأيه فيما تفعله الإذاعة لاستعادة ثروتها المفقودة، فأشار عليه موسى إبراهيم بضرورة مخاطبة المستمعين عبر الإذاعة، ليدعموا الإذاعة بما يملكونه من أسطوانات، فنجحت المبادرة، فعكف موسى إبراهيم بنفسه على نقل الأسطوانات وتحويلها إلى أشرطة الريل «الماستر» فحفظ للأجيال تاريخاً كان سيضيع ويندثر. رحم الله موسى إبراهيم، الذي وصفه البروفيسور علي شمو، عقب رحيله، بالإذاعي الحصيف، الذي جمع الله في صدره مواهب عديدة، جعلته متميزاً في عمله وعطائه، طوال سنوات عمره. رحمه الله وأحسن إليه، وجعل مقامه في أعالي الجنان مع الصديقين والأنبياء وعباد الله الصالحين، وصادق آيات العزاء لأهله وذويه وعارفي فضله من زملائه الإذاعيين، الذين يعرفون قدره. عوض أحمدان الإذاعة السودانية - أم درمان