جاءت الاشتبكات العسكرية في بلبلا ومشيش وتمساح على حدود مديرتي دارفور وبحر الغزال، لتمثل دليلاً إضافياً لما كنا نقوله ونعيده ونكرره عبر هذه الزاوية على مدى سنوات، وهو أن نهج المحاصصة والمحاددة و(تماسك الحزز) حول(حقي وحقك) و(حدي وحدك)، لن يصلح لإدارة وطن كالسودان بتداخلاته وتشابكاته الأثنية والثقافية والمصلحية. فلم تكد الانتخابات العامة تضع أوزارها حتى جاءتنا الأخبار تترى من تلك المنطقة القصيّة الفاصلة بين ولاية جنوب دارفور وولاية غرب بحر الغزال، حديثتي النشأة الإدارية، لتنبئنا عن صراع مسلح بين قوات الجيش الشعبي المرابطة في المنطقة منذ ثلاث سنوات- بحسب التقارير- ومليشيات مسلحة تنتمي لقبيلة الرزيقات، وتضاربت تلك التقارير حول البادئ بالهجوم، و(البادئ أظلم) كما يقول المثل العربي القديم، ولكن تحديد من هو البادئ في مثل هذه الاشتباكات التي تنفجر على حين غرة، غالباً ما يكون أمراً عسيراً ويستلزم تحريات وأبحاثاً جنائية أو عسكرية، وليست هي من واجبات أو مطلوبات مقال صحفي يسعى لتلمس ما هو أهم، تلمس الدوافع والاحتقانات التحتية التي تقود لمثل هذه الانفجارات والاشتباكات الفجائية، التي ما هي إلا مظهرٌ وعرضٌ لمرض عضال وعلة فتاكة تنهش في جسد النسيج والبناء الاجتماعي للأمة وتتهدده بالموت والفناء. تضاربت الأنباء المتواترة من هناك حول بداية الاشتباك الذي بدأ يوم الجمعة الماضي وتجدد يوم الأحد وأسبابه المباشرة، والذي راح ضحيته مئات القتلى والجرحى. ففي وقت نسبت فيه الصحف لأحد أعيان الرزيقات الشيخ(الهادي المهدي) قوله إن قوة من ستة آلاف جندي مدججين بأسلحة ثقيلة، عبروا (حدود 1956م) واعتدوا بالهجوم على مناطق بادية الرزيقات ما أدى إلى مصرع «25» من الرزيقات وجُرِح «10» آخرون توفي منهم خمسة لاحقاً أثناء نقلهم لمستشفى الضعين، وأن الهجوم أوقع خسائر فادحة كذلك في الممتلكات خصوصاً المواشي، وتحدثت حصيلة لاحقة نشرت الاثنين عن ارتفاع عدد الضحايا إلى «159» قتيلاً وجريحاً من الطرفين، إلاّ أن ناطقاً باسم الجيش الشعبي هو رئيس أركانه جيمس هوث قال في تصريح صحفي نشرته «الصحافة»: إن مليشيات مسلحة تابعة للحكومة هاجمت قوات الجيش الشعي في مواقعها بمنطقة بلبلا شمالي راجا، وأوقعت الاشتباكات «84» قتيلاً و «60» جريحاً من المليشيات المسلحة، بينما قتل من الجيش الشعبي «10» من جنوده وأصيب «5» آخرون، وأوضح هوث أن المليشيا هاجمت مواقع دفاعية توجد بها قواته منذ ثلاث سنوات، بحجة تجاوز هذه القوات لحدود الأول من يناير 1956م مؤكداً عدم تجاوز قواته تلك الحدود. وفي الأثناء سمعت القيادي في الحركة الشعبية مرشح وإلي الخرطوم المنسحب إدوار لينو يدلي لقناة (الحرة) مساء الأحد برواية مطابقة لرواية هوث، ويحمّل الحكومة مسؤولية تجنيد وتجهيز تلك المليشيات من قبائل الرزيقات ويبرئ القبيلة من مسؤولية تفجير القتال.. ومن جانبه نفى متحدث باسم القوات المسلحة أية صلة للقوات الحكومية بالهجوم، مشيراً إلى انتهاك الجيش الشعبي لاتفاقية السلام، وقال: (إن الزي العسكري لم يكن دليلاً على مشاركة الجيش في الصراع)، وأردف (إن الزي العسكري قد يتم ارتداؤه من قبل المجموعة التي شاركت في الصراع). تضارب الأنباء هذا حول من هو البادئ وما هي الدوافع والأسباب لن يحسمه إلا تحقيق جنائي أو عسكري كما سبقت الإشارة، وقد وعد رئيس أركان الجيش الشعبي هوث برفع الأمر إلى مجلس الدفاع المشترك، لكن دعونا نعود لما هو أهم والذي هو موضوع هذه «الإضاءة»، فالملاحظة الأولى هي كثرة الحديث وتكراره الممل عن حدود الأول من يناير «1956» تاريخ استقلال السودان، للدرجة التي تجعلك تشعر بأن حدود «1956» هذه هي حدود بين دولتين وليس حدوداً إدارية داخل بلد واحد، وهذه بعض مكائد نيفاشا وتخطيطها المسبق لظهور دولة جديدة في جنوب البلاد كما أصبح يعلن البيت الأبيض والخارجية الأمريكية صراحة وبكل «قوة عين». والملاحظة الثانية أن عرب دارفور وكردفان من الرعاة قد اعتادوا سنوياً الترحال في فصول الجفاف جنوباً باتجاه بحر الغزال، وكذلك يفعل رصفاؤهم في النيل الأبيض والنيل الأزرق باتجاه أعالي النيل طلباً للكلأ والماء وأصبح هذا نمط حياتهم وقوامها، وكذلك يفعل الرعاة من الدينكا والجنوبيين الآخرين في فصول الخريف بعبور «بحر العرب» أو «نهر كير» بلغة الدينكا لمناطق أكثر مواءمة لصحة الحيوان في كردفان ودارفور، ولم يكن أي من الجانبين يشعر بأنه يتخطى «حدوداً دولية» أو حتى ينتبه إلى أين تبدأ حدود «56» الإدارية أو أين تنتهي، والكل يتعايش ويتعارف وحتى يتصاهر في سلام، وقد تقع بعض حوادث العنف الفردي أو حتى بين القبائل في الصراع على الموارد من ماء ومراعٍ، لكنها في النهاية تنتهي بالمصالحات والتعويضات والديات ويعود السلام وتستأنف الحياة مسيرتها المعتادة. أما بعد نيفاشا فالأمر اختلف، واكتسبت حدود 1956م «قداسة» الحدود الدولية، وأصبحت المناطق الواقعة حولها على امتداد السودان من الغرب إلى الشرق تعرف في لغة الإعلام والدبلوماسية والسياسية ب«مناطق التماس»، عوضاً عن أن تكون مناطق للتمازج والتعايش، ما يجعل الواهمين أو الحالمين ب«طلاق سلمي» أو «حوار أخوي» كمن يطالب بالمطر في عز الصيف، فالسلام والإخاء والتعايش طريقه واحد ولا سبيل سواه هو تمتين وحدة الأرض والشعب في وطن حر وديمقراطي وعادل يسع جميع مكوناته، ومرة أخرى نؤكد «أن الوحدة والسلام صنوان» لا ينفصلان.