المتابع للصحافة الأمريكية وغيرها من الصحافة العالمية خلال وعقب الانتخابات، يطالع مقالات موضوعية كتبها أجانب عايشوا الانتخابات داخل بلادنا لحظة بلحظة، وقرأوا الأحداث والوقائع بعمق دون الالتفات الى هتافات المعارضة، ممارسين دورهم بمهنية عالية.. ومن هؤلاء جفري جيتلمان الذي كتب في صحيفة انترناشونال هيرالد تريبيون الأمريكية، مقالة موضوعية استهلها بسرد وصف لقرية (طبقة)، البالغ عدد سكانها 800 نسمة والواقعة على بعد ثلاث ساعات من الخرطوم على جانب طريق سفري، فدعونا نفسح المجال لمقاله الذي ننقله حرفياً، فهيا الى ما كتبه جيتلمان: المنازل في طبقة ذات ارتفاعات منخفضة ومبنية من الطين، والجو حار جداً لا يقوى أحد على تحمله غير بعض الحيوانات الأليفة، إلا أنه داخل هذه المنازل تجد المعجزة، ففيها الكهرباء والماء ومراوح السقف ومكيفات الهواء وأجهزة DVD فخلال 21 عاماً هي فترة الرئيس عمر البشير، أصبح حال أهل قرية طبقة وملايين مثلهم في مناطق أخرى بالسودان، دليلا على التحول الاقتصادي الذي حدث، فبحسب صندوق النقد الدولي فإن الناتج الإجمالي المحلي في السودان تضاعف ثلاث مرات منذ تولي الرئيس البشير زمام الأمور في البلاد، وقال تقرير للبنك الدولي إن هذه الطفرة الاقتصادية حدثت خلال العقد الماضي منذ بدء تصدير النفط في أقوى نمو اقتصادي منذ الاستقلال عام 1956، وكانت ثمرة النهضة الاقتصادية مزيداً من المدارس والشوارع والمستشفيات وفرص العمل، وهذا يفسر حماس الناخبين في الانتخابات الأخيرة لإعادة انتخاب الرئيس البشير ولا يبدو أن مذكرة المحكمة الجنائية الدولية تهم أهالي المناطق التي استفادت من النهضة الاقتصادية. ويقول المحللون الاقتصاديون إن واضعي السياسة الاقتصادية السودانية أحسنوا الاستثمار في مجالات البنية التحتية والتعليم والزراعة. وقال أحد مواطني قرية طبقة(لماذا ننتخب لإحداث تغيير؟.. فحياتنا الآن أفضل بكثير من الماضي). كثير من البلاد الأفريقية مرت بنهضة اقتصادية مماثلة، لكن دون شك كثير من السودانيين يعزون الازدهار الذي ينعمون به لرجل واحد هو البشير، فالرئيس البشير ما زال محل شد وجذب في بعض المناطق في السودان مثل دارفور والجنوب، لكن في مناطق أخرى مثل أواسط البلاد والعاصمة فالغالبية العظمى تقول إنها ستصوت للرئيس البشير، متذكرين بمرارة معاناتهم في أواخر عقد الثمانينيات عندما بلغت نسبة التضخم ثلاثة أرقام، وكان حينها السودان يحكم بواسطة الأحزاب المعارضة التي انسحبت من الانتخابات الأخيرة التي مددت يومين آخرين بسبب أخطاء فنية وقعت في اليوم الأول. معظم المراقبين يتوقعون اكتساح البشير للانتخابات، لكن هذا الفوز سوف لن يضفي أي شرعية كان البشير يسعى اليها ضد المحكمة الجنائية الدولية، كثير من مراقبي الانتخابات ورموز المعارضة اتهموا البشير بالتزوير، لكن الحقيقة مع ذلك أن البشير سيفوز دون الحاجة لهذا التزوير، فلسنين عديدة عانت المعارضة من الانقسام والتشرذم في حين ظل المؤتمر الوطني موحداً يعمل بروح مهنية، فلا غرابة أن تشاهد صور الرئيس البشير منتشرة في كل مكان قبل أسابيع من بدء الانتخابات، ولم تكن صوره بالزي العسكري أو بزي على غرار شيخ إسلامي، بل كانت صوره واقفاً قرب رمز صناعي مثل خزان أو مصنع أو شارع...الخ في عام 1999 بدأ السودان ضخ البترول ومعه بدأ النمو الاقتصادي بالازدهار، ولم يضع السودان تلك الفرصة، فالفساد ليس عاملاً معيقاً في السودان مثل ما هو حاصل في كينيا أو جمهورية الكونغو الديمقراطية أو نيجيريا، ويقول البنك الدولي إن السودان يتمتع بأذكى المخططين الاقتصاديين في القارة الذين استثمروا بحكمة في التعليم والبنية التحتية والزراعة. بالطبع هذه الثروة ليست موزعة بالتساوي، فالسودان بلد عسكري وجنود الحكومة هم أكبر المستفيدين من الانتعاش، فهم يحصلون على الأسلحة الجديدة والناقلات والمستشفيات.. الخ، وهناك قطاعات عريضة من السودانيين خاصة في دارفور والجنوب، يعيشون تحت خط الفقر. السودان حكم لفترة طويلة بواسطة عناصر شمالية عربية، إلا أنه قبل 10 أو 15 عاماً عندما رسخ البشير سلطاته، بدأ الناس يقولون إنهم يتذوقون طعم حياة أفضل. واختتم الكاتب مقاله على لسان كمال يوسف من أهالي قرية طبقة، إنهم كانوا يشربون ماءً قذرً من القنوات الزراعية، ويسافرون لمسافات طويلة لأقرب مستشفى، فالقرية الآن تتمتع بمركز صحي وماء نظيف وكهرباء ومدارس.