سألت بعض المتابعين لشؤون المفوضية القومية للانتخابات عن ماذا فعل الله بحلايب في زحمة الانتخابات وضوضائها التي تعبئ الآفاق.. فأجابني.. بأن مثلث حلايب لم يشهد عمليات اقتراع مباشرة في الموقع وأن المفوضية خصصت دائرتين جغرافيين لمثلث حلايب خارج المثلث، وأطلقت عليهما حلايب(1) وحلايب(2) ووضعت مراكز الاقتراع الخاصة بهما في شلاتين القريبة من المثلث الحدودي، وكانت قد وردت أنباء متقطعة ومتفرقة من هناك نشرتها بعض الصحف السودانية، بأن بعض أبناء حلايب من قبائل البشارين والعبابدة يتعرضون لمضايقات وبعض العنت عندما يتوجهون إلى شلاتين للإدلاء بأصواتهم، أو في طريق العودة إلى ديارهم بعد الفراغ من مهمة الاقتراع. المضايقات تقوم بها طبعاً القوات المصرية المسيطرة على المثلث بالقوة المسلحة. كلنا تابعنا الأوضاع الحزينة لمثلث الأزمات المصرية- السودانية القديم - الجديد، وتجاوز أهل السودان عموماً تجدد الأزمة، انطلاقاً من خصوصية العلاقات المصرية- السودانية، وقبلوا بفكرة جعل المثلث «منطقة تكامل» أملاً في ترسيخ علاقات التعاون والتكامل بين البلدين، لكن جاءت الانتخابات لتؤكد أن «فكرة التكامل» هذه ما هي إلا أمنية تداعب خيال المسؤولين السودانيين ولا تجد أي صدى في نفوس الأشقاء المصريين، والدليل الأوضح في هذا الصدد هو عدم السماح لسكان المثلث بممارسة حقهم الدستوري في العملية الانتخابية في مناطق سكناهم وديارهم، بل اضطروا لممارسة هذا الحق خارج المثلث. قادتني قصة أهل حلايب والانتخابات إلى العودة «لأصل الحكاية» التي كنت طالعتها قبل سنوات عديدة، في مذكرات الزعيم الاستقلالي محمد أحمد محجوب التي تحمل عنوان «الديمقراطية في الميزان»، ورواية محجوب لأصل الحكاية تكتسب أهمية خاصة لكونه الرجل الذي قاد المفاوضات المباشرة مع الجانب المصري عندما انفجرت الأزمة للمرة الأولى في مارس 1958م، على عهد رئيس الوزراء عبد الله خليل الذي كان المحجوب وزير خارجيته.. ففي قمة الأزمة الداخلية والشقاق بين السيدين بعد لقاء واتفاق قاد لإسقاط حكومة الأزهري وانشقاق الحزب الوطني الاتحادي إلى حزبين، بظهور حزب آخر هو «الشعب الديمقراطي» الذي تحالف مع حزب الأمة وقاد إلى تشكيل حكومة عبد الله خليل، عاد الخلاف ليستعر بين السيدين علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي إثر إعلان الأخير عن رغبته للترشح لرئاسة الجمهورية، فأعلن الميرغني أنه لن يسمح للمهدي أبداً بأن يصبح رئيساً للسودان. يروي المحجوب: إنه في تلك الأيام لم تكن مشاكلنا تنبع فقط من الخلافات السياسية الداخلية فحسب، فالقاهرة ساهمت بسخاء في زيادة أعبائنا، وقضية الحدود المصرية- السودانية، بما كانت عليه من سخف هي مثال واحد على ذلك. ويضيف المحجوب: لقد أحدث «حادث الحدود» جلبة كبيرة في ذلك الوقت قبل أن يتراجع وينطفئ، فقد كنا مشغولين في الانتخابات التي ستجرى في مارس 1958م، عندما أثارت القاهرة فجأة قضية الحدود بين مصر والسودان، وأصرت الحكومة المصرية على أن الحدود تقع بمحازاة خط العرض (22) وأن جميع الأراضي الواقعة شمال ذلك الخط هي ملك مصر. والمنطقة موضوع الخلاف كانت منطقة حلفا وحلايب الصحراوية القاحلة التي يقطنها سكان مختلفون. وكنت آنذاك وزيراً للخارجية وأقود حملتي في دائرتي (الدويم) عندما وصلتني إشارة مخابرة مستعجلة يطلب فيها رئيس الوزراء مني العودة إلى الخرطوم، ولدى وصولي إلى منزلي قيل لي «اذهب إلى مجلس الوزراء إنهم في انتظارك»، وذهبت إلى المجلس فوجدت أن مصر أرسلت مذكرة تطالب فيها السودان بالتنازل عن جميع المناطق الواقعة شمال خط العرض (22). وتقرر أن أوجه خطاباً إلى الشعب لأذيع الخلاف وأشرحه وقد تم ذلك. ومن ثم أعددت نص شكوى باللغة الإنجليزية موجهة إلى مجلس الأمن الدولي، بيد أنني أصدرت تعليماتي بعدم إذاعة الشكوى ريثما أزور مصر وأبحث في الأمر مع الرئيس عبد الناصر. ويقول محجوب، إنه قرأ الملف في الطائرة. وكان يضم وثائق سرية وأوامر فُكت رموزها من قيادة الجيش المصري إلى بعض الوحدات بالزحف على إقليمي حلفا وحلايب المتنازع عليهما قرب الحدود. وصل المحجوب إلى القاهرة وتوجه برفقة السفير السوداني إلى لقاء مع زكريا محيي الدين وزير الداخلية وعضو مجلس قيادة الثورة المصرية ومحمود فوزي وزير الخارجية، واصفاً الاجتماع بأنه «لم يكن مفيداً» فقد كان زكريا محيي الدين متصلباً وثائر الأعصاب، «فهو الذي أثار القضية» بحسب تقرير المحجوب. فطلب محجوب الاجتماع إلى الرئيس عبد الناصر فاتصلوا به هاتفياً وانتقلوا جميعاً إلى مكتبه في قصر القبة. وهنا يقول محجوب: «ناقشت وتوسلت وقلت لهم إن هذه الأقاليم هي تحت السيادة السودانية منذ ستين سنة، وقد جرت فيها ثلاثة انتخابات». وكان زكريا لا يزال غاضباً فسأل المحجوب: «هل صحيح أنكم أرسلتم قواتكم إلى الحدود» فأجابه محجوب بقوله: «نعم.. وقواتنا تحمل تعليمات أكيدة بإطلاق النار على كل من يجتاز الحدود. إننا مصممون على عدم التخلي عن شبر واحد من تلك الصحراء القاحلة الرملية والصخرية السوداء إلا بعد إراقة الدم بمقدار عشر مرات وزنها». بعدُ يخبرنا محجوب أن زكريا اتخذ لهجة هادئة، وقال: إننا لم نبنِ جيشنا من أجل مقاتلة السودان. فابتسم عندها محجوب وقال له: «أعرف ذلك، لقد بنيتموه لمحاربة إسرائيل واستعادة فلسطين»، وهنا تدخل عبد الناصر سائلاً: «أخ محجوب.. ماذا تقترح؟» فقال له محجوب: «سيادة الرئيس، إنني أقترح أن نترك القضية عالقة إلى ما بعد الانتخابات في السودان، وبعد ذلك سنحل القضية إما بالمفاوضات المباشرة و إما بالتحكيم»، ولم يوافق المصريون على ذلك. وعند ذلك قال المحجوب لعبد الناصر: «لقد حاولت عدة مرات الاتصال بمكتبي في الخرطوم بالهاتف، ولكن في كل مرة كان هناك تشويش على الخط ولم أسمع شيئاً»، فقال له عبد الناصر: «طبعاً تعرف أن جميع الاتصالات الهاتفية الخارجية مراقبة، وإذا ليس لديكم جهاز في الخرطوم لمراقبة الخطوط سأعيركم جهازاً»، فرد عليه محجوب قائلاً: «شكراً سيادة الرئيس، إنني أعرف ذلك، إننا نراقب الاتصالات الخارجية أيضاً»، ويواصل: بعدها أخذني عبد الناصر من ساعدي إلى غرفة مجاورة وقال: «سأحصل لك على الخط»، وطلب الرقم الذي كنت أحاول الاتصال به في الخرطوم وهو رقم مكتب وكيل وزارة الخارجية. وعندما رد الخط، هم عبد الناصر بمغادرة الغرفة فدعوته إلى البقاء قائلاً وأنا ابتسم: «على كل حال ستسمع تسجيلاً للمكالمة». وبقي عبد الناصر في الغرفة، وعندما جاء وكيل الوزارة إلى الهاتف أبلغته: «أذيعوا. أكرر أذيعوا» وأغلقت الهاتف، التفت إلى عبد الناصر قائلاً: هذا كل ما أردت أن أقوله. وبدا عبد الناصر مدهوشاً. ويختم محجوب، بأنه في مساء ذلك اليوم أرسل الشكوى التي كان قد أعدها في الخرطوم إلى مندوب السودان الدائم لدى الأممالمتحدة لتقديمها إلى مجلس الأمن، ولكن القضية حُلت بسرعة، فقد اتفق المندوبان المصري والسوداني على سحب الشكوى، ولم يُثِر بعدها المصريون قضية الحدود مرة أخرى. وبعد مدة نُقل عن عبد الناصر- بحسب المحجوب- قوله: «إن السودانيين غلبوه»، فلقد تم إيهام الصحافة العالمية بأن المصريين يحضرون لغزو السودان، وأن منطقة الحدود ستشهد معركة، أما نحن في الخرطوم فكنا منذ البداية نعتبر القضية «حرب أعصاب». هكذا كانت الدبلوماسية السودانية في عهدها الزاهر برغم حداثة الاستقلال وتجربة إدارة الدولة المحدودة، وها هي حلايب تطل في هذا العهد من جديد فماذا ستفعل دبلوماسية اليوم بإزائها بعد أن ثبت أن أشقاءنا يتمترسون في موقفهم، ولا يسمحون حتى بإجراء الانتخابات هناك لأشقائهم في جنوبالوادي برغم كل الحديث عن التكامل والزيارات المتبادلة ومشروعات الأمن الغذائي المقترحة؟!