تُذكرني حالة المعاظلة و«الملاواة» التي بدأت تطل برأسها مع اقتراب تدشين مواصلات العاصمة في عهدها الجديد والعودة بمدنها الثلاثة إلى ماضيها الحضاري الجميل، من خلال مشروع الباصات الكبيرة والحديثة والمحطات المظللة والمنظمة، يذكرني بالمثل السوداني البليغ : «التسوي بي إيدك إغلب أجاويدك». فمسؤولو الولاية ومستشاروهم وعلى رأسهم الوالي الدكتور عبد الرحمن الخضر يجتمعون وينفضون و«اقومو واقعدو» من أجل حل المعضلة الكبرى التي خلفتها حكومات الولاية المتعاقبة والتي سمحت لكل من هبّ ودبّ أن يأتي بحافلة من «مقابر ومكبات» الدول القريبة والبعيدة ليتم الترخيص لها على عجل في أحد خطوط المواصلات في العاصمة القومية، وليت الأمر توقف عند هذا- في حدود الحافلات المتوسطة القوام - (25) راكباً- بل تعداه «نزولاً» لتلك التي تسع (12) راكباً و (7) ركاب حتى بلغ الأمر بالموترسايكلات الثلاثية أو ما يعرف ب «الركشات» لأن تكون ضمن وسائل المواصلات المعتمدة في عاصمة «بلا وجيع» ، تحولت مع السنين حركة المرور الآمن والمنساب فيها إلى رابع المستحيلات مع تدافع الحافلات و الأمجاد والركشات في شوارعها ، ما يجعل الدهشة تقفز من عيون كل زائر للعاصمة من هذا الذي يجري وسوء التدبير والإدارة للحركة والمرور.. عاصمة كانت فيما مضى تستمتع بالهدوء والترتيب والأناقة على بساطتها، وعرفت كيف تدير مواصلاتها منذ أيام الاستعمار ومطالع الاستقلال عبر «الترام» الكهربائي- الذي يوازي «المترو» في هذه الأيام- وعرفت خطوط المواصلات الدائرية المنظمة والراتبة وإذا بها تدريجياً تتحول إلى شئ أشبه بيوم الحشر الأعظم، فيفلت العيار وتتكاثف المركبات ويشتد الزحام وتتلبد الأجواء بالتلوث ويتصاعد الضجيج ، وبلا سبب سوى سوء الإدارة وخطل التدبير. لسنا غافلين - طبعاً- عن الظروف التي قادت إلى كل هذا لأول عهد الإنقاذ، حيث ساهم سلوك النظام وجفوته المفتعلة مع بعض دول الجوار والعالم إلى المقاطعة الاقتصادية، وحين بدأ الريف يفقد مقومات الحياة فيه فاتجه أهله إلى العاصمة فراراً من الفقر والفاقه وويلات الحروب، تريفت العاصمة والمدن الكبرى الأخرى وتحولت إلى ملاجئ تكاثفت من حولها الأحياء العشوائية. فلجأت السلطات في العاصمة خصوصاً إلى أيسر الحلول وأخطرها لمواجهة ضائقة المواصلات بأن سمحت لكل من أراد أن يحضر حافلة أو ركشة أن يفعل، وإذا بها تكتشف بعد حين أن العاصمة ذاتها قد ضاقت واكتظت واتسخت وتحولت إلى شئ لا يسر الناظرين.والي الولاية وحكومته وإدارة مشروع المواصلات الجديد الذي وصلت باصاته الكبيرة متأهبة للشروع في العمل يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة موقف صعب وواقع صنعته أيدي الحكومات السابقة، التي جعلت من الحافلات الصغيرة والركشات وسائل وسبلاً لكسب العيش، وخلقت بذلك مراكز قوى تضغط لاستمرار الحال على ما هو عليه. من ذلك مثلاً بعض البيانات والتصريحات الصادرة عن بعض المتحدثين باسم نقابة النقل العام. هذا الموقف والواقع يحتم على الوالي وحكومته اتخاذ القرارات الصعبة التي لن تكون شيئاً آخر غير أن تفسح الحافلات والأمجاد والركشات في الطريق - خصوصاً في قلب العاصمة الخرطوم- أمام مواصلات العاصمة المنظمة، والتي يملك القطاع الخاص معظم أسهم شركتها، وبدون ذلك سيزداد «الطين بلة» وتزداد نيران الزحام اشتعالاً. وهذا يمكن أن يحدث - كما يشير بعض الخبراء في شأن النقل العام والمواصلات بخطوات تدريجية إدارية وتنظيمية وقانونية: ü أولها: وقف التراخيص الجديدة للحافلات الصغيرة للعمل في خطوط المرور. üثانيها: التقيد «بالعمر الافتراضي» الذي يحدده قانون النقل العام للمركبات. üثالثها: التأكد من «الصلاحية الفنية» للحافلات بعد الفحص الميكانيكي والهيكلي للمركبات الصغيرة «25 راكباً فما دون» للتأكد من مدى حجم التلوث المنبعث من «عوادمها» ومدى صلاحية هيكلها وملاءمة مقاعدها لنقل الركاب وراحتهم. ü رابعاً: قصر حركتها على الخطوط البعيدة عن قلب العاصمة الخرطوم، وتحديدها في مسارات بعينها توصلها إلى الموقف بمنطقة السكة حديد، ريثما يتم التخلص منها تدريجياً مع تقدم مشروع المواصلات بوصول الدفعات الجديدة من مركبات وتنظيم محطات الصعود والنزول، حتى يبلغ طاقته الاستيعابية الكاملة. üخامساً وأخيراً: تفعيل قرار اللجنة العليا للمركبات الذي يمنع عبور أية حافلة تقل حمولتها عن (14) راكباً «كالهايسات والقريس والأمجاد» من عبور الكباري وقصر عملها- بعد فحص صلاحياتها- على محليات العاصمة القومية السبعة.ونذكِّر مسؤولي نقابة النقل بأن سنة التغيير ماضية، ونحن معهم في ضرورة ألا يتضرر أصحاب المركبات الصغيرة في معاشهم ولقمة عيالهم، ولكن عليهم أن ينظروا في الوقت ذاته إلى الواقع الأليم الذي تعيشه العاصمة جراء هذه الكثافة غير الضرورية لوسائل نقل صغيرة ومهترئه ولحوادث المرور القاتلة التي تترتب عليها كل يوم، وأن يقبلوا بالترتيبات الإدارية اللازمة، وأن يفكروا في بدائل أكثر جدوى مثل «مشروعات الإنتاج الصغيرة» التي تضمن لأصحاب هذه الحافلات والعاملين فيها مستقبلاً أفضل وحياة أكرم.