ليس أدل على تدهور الخدمات الطبية، في عاصمتنا القومية من الأخبار التي تناقلتها صحف الخرطوم خلال اليومين الماضيين «الأربعاء والخميس» والتي لخصناها في العنوان ذي المقطعين أعلاه. فقد بلغت علاقات الأطباء بوزارتهم تدهوراً مريعاً دعاهم إلى الدخول في الإضراب الشامل مرة أخرى، خصوصاً بعد اعتقال رئيس لجنتهم د. أحمد الأبوابي وعضوهاد. الهادي بخيت. وليت الأمر توقف عند هذا الحد.. أطباء يضربون احتجاجاً على اعتقال بعض زملائهم المنافحين عن حقوقهم المهنية، ويسيِّرون تظاهرةً سلميةً في مقر عملهم- مستشفى الخرطوم ومجلس التخصصات الطبية للتعبير عن رفضهم للطريقة التي تعاملت بها السلطات مع قادة لجنتهم، فتتدخل الشرطة لفض تجمهرهم بالقوة واعتقال عدد آخر منهم ما يؤدي إلى إصابة البعض منهم بجراح وكسور، حُملوا بعدها إلى المستشفيات و أُدخل بعضهم إلى غرف العناية المركزة ك«مرضى» هذه المرة وليسوا نطاسين يداوون الجراح! قضية الأطباء قضية قديمة، فشلت الدولة حتى الآن في التعامل معها بروح «دولة الرعاية»، فالأطباء في بلادنا يعانون من الفقر المدقع، نتيجة ضآلة المرتبات التي يتقاضونها، فنائب الاختصاصي- كما يقولون- لا يزيد راتبه عن ال(650) جنيهاً بينما يتراوح مرتب الاختصاصي بين ال(900) و (1000) جنيه لاغير، وتحاول الوزارة أن تجري بعض التعديلات والترقيعات على هذا الواقع المزري للطبيب ببدلات متفاوتة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا ما يجعل الأطباء في حالة تذمر دائم وركض متواصل بين العيادات والمستوصفات آناء الليل وأطراف النهار لتحصيل الحد الأدنى من المال لمواجهة احتياجاتهم الضرورية، وهذا يقود بالضرورة إلى فقدانهم التركيز في أداء واجباتهم المهنية، على حساسيتها، ويقلل بالتالي من كسبهم العلمي في مجال تخصصاتهم وتطوير قدراتهم، خصوصاً عندما نتذكر أن الظلم والتقتير يصيب شباب الأطباء من الأطباء العموميين ونواب الأختصاصيين والأختصاصيين الجدد بوجهٍ خاص، وهؤلاء هم ذخيرة وعدة المستقبل لمهنة الطب في بلادنا. فالأمر لم يكن يستلزم أن تدعو وزارة الصحة الشرطة لتقوم بتطويق ميز الأطباء بالخرطوم ومجلس التخصصات الطبية، ولتدخل الشرطة في مواجهات مع أطباء يرفعون مطالب بإطلاق سراح زملائهم وبتحسين شروط خدمتهم، ولا يستدعي من الشرطة ذاتها استخدام العصي والهراوات ضد أطباء سلاحهم العلم والسماعة ولافتات تحمل مطالبهم. فالإضراب عن العمل وتسيير المواكب السلمية عمل مشروع في ظل أي نظام ديمقراطي من أجل الحصول على حقوق تعرضت للإجحاف، وكان بإمكان وزارة الصحة أن تدخل في تفاوض، كما فعلت من قبل مراراً، حتى تقنع الأطباء بوجهة نظرها، بالرغم من أن الأطباء يحتجون هذه المرة على عدم التزامها بالعهود والمواثيق التي قطعتها على نفسها إبان موجة الإضرابات السابقة التي تزامنت مع الانتخابات خلال شهر مارس وأبريل الماضيين. آخر ما يتوقعه المرء هو أن تلجأ السلطات لاستخدام العصي والهراوات لمواجهة الأطباء و«تأديبهم»، وتلك فعلة كما وصفها أحد أعضاء لجنتهم تمثل «انتقاصاً لكرامة الطبيب السوداني» وإهانة وتدفعه للمزيد من العناد، خصوصاً إن جل هؤلاء المضربين والمتظاهرين هم من الأطباء الشباب. ويذهب بعض آخر من المسؤولين ومنسوبي الحكومة إلى تصنيف وتوصيف إضراب الأطباء والمطالبة بحقوقهم في خانة «الكيد السياسي» للحكومة، وهو تصنيف يجافي الحقيقة، لسبب بسيط لا يحتاج اكتشافه إلى عبقرية أو لجاج، لأنه لو قيل لأي من هؤلاء الذين يتحدثون عن ذلك «الكيد السياسي» سنخفض راتبك أو دخلك الشهري ليوازي دخل «الطبيب» الذي هو أكثر تأهيلاً منه، لانتفض هو الآخر وحمل لافتته وخرج إلى الشارع محتجاً على التقتير والتنفير وضيق ذات اليد. فلا يُعقل أن يكون دخل الطبيب أقل من موظف للعلاقات العامة أو سائق إحدى الحافلات أو موظف استقبال أو عضو سكرتارية أحد الوزراء أو مرافق وحامل شنطة لأحد مدراء بعض الشركات. إضراب الأطباء «مكروه» من حيث المبدأ، لأنه يمس بشكل مباشر الرعاية التي يتوقعها المريض من طبيبه، فلماذا نلجئ الطبيب على «تعاطي المكروه عمداً» بالتضييق عليه في ضرورات عيشه، بينما يجد زملاء دراسته الذين تخرّجوا في مساقات أخرى، بعضها يحتاج جهداً وتحصيلاً أقل، في وضع أفضل منه، فيشعر بالحسرة على الكدَّ والسهر من أجل التفوق ودخول كلية الطب والتخرج فيها طبيباً. أصبت بدهشة كبيرة واستغراب شديد وأنا اطالع القرار الرئاسي الصادر يوم الأربعاء الماضي ونشرته صحف ذلك اليوم، والذي جاء تحت عنوان: قرار جمهوري ب«تحسين شروط خدمة أطباء الامتياز ونواب الاختصاصيين»، فقد كنت أتوقع بحكم ذلك العنوان أن أرى زيادةً مباشرة في رواتب الأطباء- بدرجاتهم المختلفة- بنسبة مقدرة (30%) أو (50%) أو مضاعفتها مثلاً، ولكنني فوجئت، كما فوجئ الأطباء قطعاً بأن القرار يتحدث عن مجموعة «منح» بعضها «300» جنيه شهرياً لنواب الاختصاصيين «منحة دراسية» وزيادة منحة أطروحة للنواب بواقع (2000) جنيه تدفع مرة واحدة عند نهاية التدريب، ومنحة نهاية امتياز (250) جنيه شهرياً، بالإضافة إلى «150» جنيه عن كل أرنيك جنائي يشرف عليه الطبيب و (200) جنيه عن كل قضية يقدم فيها شهادته و (1000) جنيه عن كل جثة يشرِّحها و (3000) جنيه عن كل جثة يقوم بنبشها. ولكن دهشتي واستغرابي زالا عندما علمت أن القرار جاء بناءً على توصية من وزير المالية والاقتصاد الوطني، الذي ربما أراد أن لا يلزم وزارته بتحسين فعلي لرواتب الأطباء يرهق خزينته، المرهقة أصلاً جراء الرواتب والمخصصات الدستورية المهولة و«المتلتلة»، فلجأ للتوصية بتلك «النِّتَف» من قبيل مكافآت نهاية التدريب وأرانيك الحوادث، والتشريح ونبش الجثث الذي لا يشمل سوى عدد محدود جداً من اختصاصيي الطب الشرعي العاملين في المشرحة ومتعلقاتها، وبديهي فعل وزير المالية ذلك بنصيحة من وزارة الصحة. وبمناسبة المشرحة، وما أدراك ما المشرحة، فقد طالعتنا جريدة «الانتباهة» أمس الأول الخميس بخبر يقول إن جولة لأحد محرريها(عمر جمعة) كشفت عن تردٍ خطير في بيئة المشرحة بسبب «توقف الثلاجات» عن العمل، الأمر الذي أدى لانبعاث روائح كريهة من داخل المبنى، وشكا عدد من المواطنين بالمناطق المجاورة من الروائح التي تنبعث من المشرحة وطالبوا بتدخل عاجل من المسؤولين بالدولة ووزارة الصحة لحل المشكلة، التي أعادت الصحيفة أسبابها إلى تعطل الثلاجات واكتظاظ الجثث داخلها. «وخدي دي كمان» يا وزارة الصحة فالإهمال طال الأطباء الأحياء وامتد إلى الموتى الذين ينتظرون الدفن في المشرحة، أولئك يشكون الفقر والتقتير، وهؤلاء تطالب روائحهم «المتظاهرة» و المنبعثة إلى الشوارع بالتبريد.. فبردوا جيوب الأطباء «المسخنة» وشغلوا «ثلاجات الموتى» المعطلة يرحمكم الله.