تتواتر التحركات السياسية والدبلوماسية والتعبوية الشعبية من أجل ترجيح خيار الانفصال في الاستفتاء على تقرير المصير إلى الجنوب، في وقت لا يزال الحديث الرسمي والشعبي عن العمل لجعل خيار الوحدة جاذباً حبيس التصريحات والتنظير والأماني. فقد شهد الأسبوع الماضي على سبيل المثال لقاءاً على مستوى عالٍ بين وفد أمريكي بقيادة نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن ووفد جنوبي بقيادة رئيس حكومة الإقليم الجنوبي النائب الأول الفريق سلفا كير في نيروبي، أبلغ خلاله كير بايدن تأييد أغلبية الجنوبيين خيار الانفصال عن شمال السودان، ووعد بايدن من جانبه باستعداد بلاده لتقديم ما هو مطلوب لبناء قدرات حكومة الجنوب -تمهيداً للانفصال وقيام الدولة الجديدة المستقلة- وتم الاتفاق في ذلك اللقاء النادر على أن يتوجه وفد برئاسة الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم اليوم «الأحد» إلى واشنطن «لحشد التأييد للاستفتاء على تقرير المصير». وأكد باقان في تصريحات عقب الاجتماع عزم وفده إجراء محادثات مع مسؤولين في مجلس الأمن الدولي ونافذين في الإدارة الأمريكية، وكشف عن تلقي كير ومعاونيه وعداً آخر من بايدن بتهيئة دول الجوار الإقليمي لتقبل «وجود دولة جديدة في المنطقة» حال انفصال الجنوب لضمان الاستقرار، مشيراً إلى جاهزية واشنطن لتقديم الدعم لحكومة الجنوب لتقوية أجهزتها المختلفة، وأن نائب الرئيس الأمريكي - بحسب باقان- شدَّد على استعداد بلاده للدفع بالعون الفني والمالي لبناء قدرات حكومة الجنوب ومفوضية الاستفتاء لإجراء العملية بشكل نزيه وشفاف.تزامن هذا التحرك الدبلوماسي الدولي الذي احتضنته نيروبي مع حراك تعبوي شعبي شهدته مدينة جوبا، نظَّمه «تجمع شباب الحركة الشعبية» حيث خرج المئات من المواطنين الجنوبيين في تظاهرة حاشدة تطالب بالانفصال ويرفع المشاركون فيها أعلام الحركة الشعبية -وليس علم السودان- ويرتدون قمصاناً مطبوعاً عليها خريطة الجنوب، الدولة الجديدة التي يطالبون بقيامها بعد الانفصال.. وجابت المسيرة شوارع جوبا حتى انتهت إلى ضريح زعيم الحركة الراحل جون قرنق، بالرغم من أن قيادات الحركة المعروفة تحاشت مخاطبة المسيرة وتركت الأمر لممثلي تجمع الشباب.وكانت أنباء أول الأسبوع «السبت» قد أفادت بأن حكومة الجنوب قد فرغت من وضع تصور مُفصل حول التفاوض مع الحكومة المركزية حول ترتيبات ما بعد الاستفتاء، تتضمن تشكيل سكرتارية للتفاوض بين الشريكين، تمثل فيها دول النرويج و«إيقاد» وهولندا والأمم المتحدة للمساهمة في حل القضايا المتصلة بالبترول والمواطن والحقوق الأساسية والرُحَّل، ووجهت كافة الوزارات بالحكومة بإعداد تصورين لمرحلتي -أو حالتي- الوحدة والانفصال. وأوردت جريدة «الصحافة» عن مصادر وثيقة أن وزارة التعاون الدولي الجنوبي سلّمت سلفا كير تصوراً من «15» صفحة يحوي استراتيجيتها لفترة ما بعد الاستفتاء، وشدّدت في حال الانفصال إعطاء الأولوية بالنسبة لوزارة الخارجية الجديدة لبناء «علاقات ثنائية قوية مع الخرطوم لتفادي أي عنف محتمل»، بل ذهب الأمر أكثر من ذلك إلى تفصيلات متعلقة بقضية الجنوبيين العاملين بوزارة الخارجية السودانية، ووضع مقترحات للتفاوض بشأنهم بين تخييرهم بالبقاء في وظائفهم الحالية أو استيعابهم في «خارجية الجنوب» الجديدة!!هذه التحركات المتواترة، تنبئنا بأن العمل على جبهة الانفصال يمضي بخطوات حثيثة ويجري تحضيره وإنضاجه على نار حامية، بينما لانرى على الضفة الأخرى -العمل لجعل الوحدة جاذبة- أي حراك يذكر أو خطوات عملية تتخذ، واقتصر الحديث حتى الآن على إعلان النوايا والمقترحات والتمنيات، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، ما عدا لفتة عابرة تمثلت في اختيار سيدة جنوبية لمنصب الأمين العام لاتحاد المرأة السودانية للمرة الأولى، قيل انها خطوة تستهدف إنزال «الوحدة الجاذبة» إلى أرض الواقع.لكن الأهم من ذلك كله، وفي مواجهة هذه التحركات الانفصالية وعملية «الإنضاج» التي تجري لقيام الدولة المنفصلة، هو ذلك «الملمح الجديد» والمهم الذي نُسب إلى نائب الرئيس الأستاذ علي عثمان محمد طه، والذي ورد في مقال للأستاذ خالد التجاني تحت عنوان «جدل الوحدة والانفصال.. حقاً من يقرر المصير؟» بجريدة «الصحافة» يوم الخميس الماضي. وذلك خلال اللقاء «الصريح للغاية» والنادر مع الإعلاميين الذين رافقوه في زيارته للقاهرة في فبراير الماضي، والذي قدم خلاله «مرافعة نقدية شديدة الأهمية أضفى عليها مصداقية كبيرة أنه لم يبرئ نفسه ولا حزبه من تحمل قسط من المسؤولية فيما آلت إليه الأمور من انحراف عن تحقيق الغايات الكبرى المتوخاة من اتفاقية السلام الشامل».. هذا الملمح الجديد يتمثل في ما عبّر عنه علي عثمان من رؤية -بحسب التجاني- «تقوم على أنّ الاتفاقية رسمت الحد الأدنى للوحدة الطوعية القائمة على ترتيبات قسمة السلطة والثروة، ولكنها تركت الباب مفتوحاً لحدها الأعلى بمعنى تأسيس وحدة فعلية «على أسس جديدة» تتجاوز فكرة جدل ثنائية الهوية، وعقلية التقاسم، إلى مفهوم يقوم على أن الوحدة هي صياغة لوجدان وطني يبني الأمة عبر مراحل طويلة وليست قراراً أو إجراء تنتهي معه القضية» وأضاف طه أنه أبلغ قادة الحركة الشعبية في دعوته لبناء وحدة وطنية طوعية «مفتوحة السقوف»: من حقكم أن تطالبوا بوحدة بمفاهيم ومعاني جديدة وفق أشواقكم لطرح السودان الجديد، ومن حقنا أن نتحاور معكم حول السقف الأعلى المفتوح حسب أشواق الناس وتصوراتهم وتفاعلهم وحسب اختياراتهم السياسية».هذا الذي نسبه التجاني إلى الأستاذ علي عثمان هو الوصفة الناجعة الوحيدة المتبقية على رفوف الصيدلية الوطنية، والتي تجنب كل النطاسين السياسيين في الحزب الحاكم «المؤتمر الوطني» الاقتراب منها حتى كاد ينقضي أجل الفترة الانتقالية، وهي وصفة بسيطة وفعالة تنهي «جدل الهوية» وعقلية «التقاسم والمحاصصة» التي ظلت تنتج التشاكس والعراك بين الشريكين -عقلية حقي وحقك وحدي وحدك- في إطار اتفاقية «الحد الأدنى» التي أنتجتها نيفاشا برؤية مركز الدراسات الاستراتيجي «وقف الحرب وسودان بنظامين». هذه الوصفة -وصفة الحوار ذي السقف المفتوح- الذي يتجاوز محظورات التخندق في إطار «الدولة الدينية» ولا يستبعد الدين من الحياة، بل يجعله فاعلاً ومؤثراً بقيمه وهديه في سلوك الحاكمين، ويعيد للدولة مدنيتها وديموقراطيتها وللأديان والثقافات حريتها وللمجتمع حقه في التفاعل والإبداع. هذه الوصفة هي الكفيلة بقيام دولة فيدرالية بمواصفات مقبولة للطرفين، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ولجميع القوى السياسية المعارضة، وتتخطى المفهوم الضيِّق «للوحدة الجاذبة» الذي يختصرها في مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والتنموية -على أهميتها- والتي لن يسعفنا الوقت لإنجاز فعل كبير ومؤثر فيها، والتي لن تبدو في أحسن الأحوال أكثر من «رشوة سياسية» وُقتت مع الاستفتاء. نحن إذن في حاجة لوضع رؤية طه موضع التطبيق عبر مؤتمر عاجل للحوار المفتوح حول الوحدة الحقيقية يبتدره المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وتشارك فيه كل القوى السياسية الفاعلة ومنظمات المجتمع المدني والأهلي.. علّ وعسى نصل إلى كلمة سواء تجنِّب بلادنا شرور الانفصال وغوائل التمزق. ü تصويب: وقع خطأ طباعي في «إضاءة الأمس»، حيث ورد.. وبينهم خال الإمام الهادي محمد أحمد العمدة مصطفى حسين.. والصحيح هو العمدة مصطفى حسن «عمدة الشوال» بالنيل الأبيض.