أثمرت نخلتي التي غرستها منذ ثمانية عشر عاماً، وبلغت الآن «سن الرشد». ترفدنا كل عام بالرطب والتمْر. وهذا الموسم ازداد عطاؤها بلا مقطوع ولا ممنْوع. هي نخلة «حلفاوية» أصيلة كان قد أهدانيها صديقي الراحل وشيخ اليسار السوداني عبدُه دهب حسنين رحمه الله حين حملها له أحد أقاربه من أقاصي الشمال في حضوري، وكانت لا تزال طفله تحبو فتعهدتها بالسقاية والرعاية حتى شبت عن الطوق وتجاوزت طولاً حائط الدار وبدأت في الإثمار. وأنا أطالع ديوان «عبد الله بن الفرات.. ينتظر ثأر الله» لصديقي الراحل الصحافي والشاعر العراقي جمعة اللًّامي، الذي عمل معنا حيناً من الدهر في جريدة «الاتحاد» الإماراتية قبل أن ينتقل إلى صحيفة «الخليج» التي تصدر من الشارقة، وقعت على مقطوعة من الشعر المنثور أو النثر الشعري -لا فرق- تحت عنوان «سلاماً سيدة الشجر»، ولكونه عراقياً فلا بد أن تكون سيدة الشجر عنده هي النخلة. وكان جمعة صديقاً حفًّياً بالسودانيين، يحبهم ويقربهم ويمضي معهم جل أوقات فراغه في المؤانسة والنقاش، وهو عراقي أسمر من جنوب أرض الرافدين، ربما أخذ بعض سمرته من زنوج العراق الذين يشهد لهم التاريخ بأول انتفاضة تحررية في الشرق العربي، تلك الانتفاضة التي يدعوها المؤرخون ب«ثورة الزنج».. في مقطوعته النثرية عن النخل يقول اللاّمي: أحبُ السعف ولم أدخل أي بستان نخيل في بلادي إلا وقد توقفت مشدوهاً أمام النخلة: الصبر في أكثر تحققاته إعجازاً، والجمال المُتفرد في وحشيته أو هدوئه، والشجاعة الفائقة في البحث عن المنابع داخل الأرض، بل في أعمق أعماقها.وفي ليالي الصيف القمراء يتحول بستان النخيل إلى مائدة الفقراء، ومنتدى لمحبي الحياة، وساحة للعب الصبيان، واتساعاً على امتداد المدى لمن يريدون التعرف على الله. في ليالي الشتاء العراقية الغاضبة يشتعل بستان النخيل بعراك السعف، والجذوع مع الجذوع، ويتهادى من يتهاوى كاعجاز نخل خاوية، وتصرخ طيور الفاخت، وتعيط القُبُّرات، ويهرب كل من له قلب حديدي من شدة وهول الأصوات: الليل في البستان العراقي، الليل الشتوي، أكثر قدرة على الخروج من التجريدي إلى المحسوس، فالنخل يتخذ أشكالاً خرافية، ويستحيل عليك أن تصدق ما ترى، فهل أنت أمام اعتراك حقيقي أم أنت في يوم الحشر، هل أنت إمام اعتراك الضمير ضد الشرِّ أم أنت إزاء الهبوب العضوب لرياح بابلية، أم أنت وسط جبروت النجف وسلام وصدق عبد القادر الكيلاني أو (الجيلاني كما نقول)!! ولكن كيف يستطيع رجل عاش مع النخيل، أن يرضى بغير ما ترتضيه النخلة؟.. كيف يمكن لمن تابع نمو الأشجار العراقية الرضوانية على امتداد دجلة حتى شطِّنا في البصرة أن يهجر ذاكرة النخلة العراقية؟.. كيف يكون للجمال أنه ينسى انه الجمال. ذات يوم كان عليًّ أن أنسى. قلت لأضع ستاراً سميكاً بيني وبين ذاكرة النخيل في العراق. وعندما درتُ في بيروت وعمان والقاهرة وطرابلس والكويت، اكتشفت أن «نخلة الله» تسير معي في كل اتجاه عربي، وأن الفؤوس التي تهوي على سيقان «نُخيلات الله» في كل قطر عربي متوحدة الإرادة والفعل، بينما النخيل العربي يتعرف على بعضه بطريقة سياحية! أشهد أن هذا كان قاسياً عليًّ. وأقسم باسم الذي صيًّر أمي نخلة في قبرها، وأحلف بذلك العربي الذي جاء من الحجاز إلى فلسطين فالعراق، إن النخلة روح، وانها تدمع لفراق طائر الفاخت عندما تترصد له «حيةُ» النخيل الخضراء، وان جسد النخلة يتفصدُّ دمعاً أسودَ، إذا تذكرت نخلةٌ عراقية إختاً فارقتها. يا لسعفات العراق. كبر بها الجواهري والسياب وسعدي وعبد الوهاب، وجاء لها من أقصى الجنوب يسعى«حسب الشيخ جعفر» ليضع فيها حزن كل المُضيعين، وتعب الذين لم يعرفوا طعم الراحة، وليبعث عالم الصغار الأبرياء غير القادرين على الإيذاء في عالم الكبار البالغين.. يا لسعفات العراق: فرح الحزانى ساعة صلاة الفجر، وحزن الصابرين في يوم الكظم، وشهقة صبية نادرة البراءة وهي تكشف سخافة الدنيا.. سلاماً سعفات العراق: هو ربُّ الشجر المُسيًّد يستيقظ فينا الآن، ليعلن «ميثم التمار» إن نخلته الوحيدة هي قاربه في الهروب إلى الله، ان لسانه الذي لم ينذرب إلا بحب الحق تأتيًّ له أن يكون كل حرف.يا سيد الشجر، هو الحب حد الخوف منه يتقصى روحي عندما يتذكر واحدٌ منا ملاعب طفولته.. سيد الشجر: ها أنا الشجر: لأحترب مع نفسي، ولأكتشف سمو رجلٍ مات مثل نخلة: واقفاً روح الماضي وكفاءة المستقبل، وهو ينادي: آه من روحي، كيف اتحولُ إلى شجرة نخل؟! سيد الشجر: أبداً يزدهر النخل.عاش اللاّمي حياة ملؤها الاحتجاج والنضال والتعاسة، فهو الذي أمضى سنوات من الظلم والعسف في سجون «البعث الصدامي»، فقرر أن يهجر العراق ليلتحق بالثورة الفلسطينية في أكثر فصائلها راديكالية وجذرية «الحركة الشعبية» ويعيش في كنفها سنوات عزيزة من الكفاح والقتال قبل أن يتجه إلى الكويت ومن ثم إلى الامارات. كان شاعراً عظيماً وكاتباً فخيماً يعتصر الحروف وتعتصره حد الاحتراق، كما كانت تفعل بعبد الله جماع ومعاوية محمد نور وصلاح أحمد ابراهيم وشيبون، وغيرهم من شعراء شعبنا المحترقين.