ما إن عاد الوفد الحكومي من مفاوضات القضايا العالقة بين السودان ودولة جنوب السودان التي تستضيفها العاصمة الأثيوبية أديس أبابا بمفاجأة لم تكن حتى في حسبان أعضاء الوفد المفاوض والتي تمثلت في وضع إطار يمهد لاحقاً لاتفاق حول الحريات الأربع (التنقل، التملك، الإقامة، والعمل) حتى خرج رئيس منبر السلام العادل الطيب مصطفى الذي يصفه الكثيرون بالتسبب ومنبره في فصل الجنوب عن الشمال خرج على الملأ محرضاً كما كان متوقعاً على الاتفاق وداعياً لإجهاضه على نسق اتفاق أديس الأول بين (نافع وعقار) والذي أشعل شرارة الحرب بالنيل الأزرق ثم لحقت بها جنوب كردفان وتسبب في أزمة جديدة للبلاد. ولم يكتف مصطفى ومنبره بنفسه في التحريض بل مضى لأبعد من ذلك بتحريضه لأئمة المساجد بتعبئة الشعب السوداني ضد الاتفاق والوفد المفاوض الذي وصفه بأفظع الألفاظ، وتناقلت وسائل الاعلام على نطاق واسع خطبة الشيخ (طنون) إمام مسجد (الفتح) بضاحية (المعمورة) التي عقب عليها (إدريس محمد عبد القادر) رئيس الوفد الحكومي المفاوض في أديس أبابا وهو يذرف الدمع. غير أن المستغرب في الأمر أن رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت وعشية توقيع الاتفاق بين الجانبين وشن الهجوم عليه من قبل الطيب مصطفى كان سلفاكير يدلي بحديث مغاير للذي يقوده المنبر ورئيسه في الخرطوم، حديثاً حمل نبرة تصالحية لم يعهدها الكثيرون في رئيس دولة الجنوب (سلفاكير ميارديت) ليصفه البعض بأنه حديث ينبئ عن «محبة» لا تخطئها الأذن، على عكس تماماً من حديث «الكراهية» الذي أظهره الطيب المعروف بتشدده تجاه الجنوبيين والجنوب. بيد أن المستغرب أيضاً في تلك الخطوة (اي الحملة ضد الاتفاق)، عدم انجرار الحكومة بما فيها رئيس الجمهورية المشير عمر البشير وراء تهديد وتطلعات مصطفى لإجهاض الاتفاق كما حدث في اتفاق (نافع، عقار) وذلك بتأييدها للاتفاق ووقفتها معه بإسراعها لعقد اجتماع للحكومة قاده الرئيس البشير عقب وصول الوفد المفاوض بالقصر الجمهوري لمباركة الخطوة التي توصل إليها المفاوضون والمتوقع تطورها لاتفاق، وأعقب ذاك الاجتماع اجتماع آخر لمجلس الوزراء مباركاً ما تم التوصل إلية بل أن وزير الخارجية (علي كرتي) شن عقب الاجتماع هجوماً شرساً على الداعين لوأد الاتفاق وقال إنهم لا يفقهون ما تم من اتفاق بين السودان ودولة جنوب السودان، وأمس الأول ظهر وزير مجلس الوزراء وعضو الوفد التفاوضي د. محمد مختار على شاشة التلفزيون الرسمي شارحاً ما تم التوصل إليه بين الجانبين واصفاً إياه بأنه ليس اتفاقاً كما يظن الجميع بل خطوات تمهد للتوصل إلى اتفاق بين الطرفين بعد جلوس لجنة من الطرفين يقودها وزيرا الداخلية في البلدين لحسم قضايا الجنسية والإقامة وغيرها بجانب لجنة أخرى تعمل لحل القضايا الأمنية والحدود والتوصل فيها لاتفاق ومن تم التوقيع على هذا اتفاق الحريات الأربع ومن غيرها التوصل لاتفاق في تلك القضايا المذكورة بحسب مختار فإن اتفاق الحريات لن يطبق، بل ومضى إلى أكثر من ذلك بأنه وفي حال الوصول لاتفاق في تلك الحريات فإنه يمكن إلغاؤها حال عدم تراجع أي من الطرفين في تنفيذ بنود ذلك الاتفاق باعثاً بذلك رسائل تطمينيه لرافضي الاتفاق والداعين لإجهاضه مثل منبر السلام ورئيسه الطيب مصطفى والذي وصفه (ياسر عرمان) أمس الأول ب(هبنقة) لعدم تأييده لذلك الاتفاق وأضاف إنه من الطبيعي ان يؤيد كل الأسوياء من أهل العقل والمنطق الحريات الأربع وهذا ما ظللنا نعمل له بالأمس واليوم غدا، بل أكثر من ذلك نحن مع علاقات إستراتيجية راسخة مع شعب الجنوب، ومع النضال من أجل توحيد السودان على أساس دولتين مستقلتين، معتبراً أن ذلك هو ما يخدم الشعب السوداني ودول الجوار، لكنه عاد وشن هجوماً قاسياً على ما يسمى بمنبر السلام العادل – وهو منبر حكومي تمويلاً وتوجهاً – حسب قوله، تستخدمه وقت ما تشاء ضد خصومها واصفاً رئيسه بأنه ينقصه الذكاء في إدراك هذه الحقيقة البسيطة، حتى ظن انه خليفة المؤتمر، مشيراً الى أن رئيس ذلك المنبر يعجز الآن أن يرى أن الحريات الأربع التي حمل على قبولها المؤتمر الوطني – وسيحمل على حل القضايا العالقة والعادلة مع دولة الجنوب - فوق انها من مصلحة طرفي السودان فهي في المقام الأول طوق نجاة لنظام الانقاذ الذي يترنح، وعلى أعتاب السقوط، ويبحث عن أي قشة للنجاة، ولا يرى قادته مخرجاً إلا في بترول الجنوب). في السياق يرى الامين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي والقيادي البارز بتحالف المعارضة كمال عمر أن الإطاري للحريات الأربع هو اطار يشكل مدخلاً لمشروع حل الازمة بين الشمال والجنوب وهو خطوة ايجابية بالنسبة للحكومة يمكن ان تدعم في المستقبل قضية العلاقات بين الشمال والجنوب وحلحلة القضايا المعلقة والوصول لصيغة سياسية تحفظ العلاقات بين الشعبين وتمهد لاتفاق. ويمضي عمر الى أن تطلعاتهم في المؤتمر الشعبي أن يروا تطبيق منح الجنسية المزدوجة وجعل منطقة ابيي منطقة تكامل بجانب ترك الحدود مفتوحة بين الدوليتين، مشيراً الى تلكم القضايا يمكن أن تحل في الإطار السياسي والودي والعلاقات الاخوية. ويرى ان التيار الغالب الآن في دولة الجنوب بحسب اتصالات له مع قيادات دولة الجنوب هو ان الشعب الجنوبي هو الاكثر ايجابية في التعامل مع ملف العلاقات بين البلدين، مؤكداً ان الشماليين الموجودين في الجنوب يتمتعون بحالة استقرار نفسي وسياسي كبير ويسيرون نحو التطور ليكون حق الجنسية مكفولاً لهم في دولة الجنوب، وأبدى عمر في حديث ل(الأحداث) آسفه في ذات الوقت بأن هناك تياراً محسوباً على الشمال وهو ذات التيار الذي فصل الجنوب وتسبب في أزمة الشعبين يدق الآن طبول العنصرية والحرب مرة أخرى وان حديثه صار مؤثراً كما قال على دوائر صنع القرار السياسي في المؤتمر الوطني لصلاته بمركز القرار وانه يعمل في اتجاه وأد هذا الاتفاق. ويرى عمر ضرورة أن تكون هناك مؤسسة سياسية بالبلاد غير المؤتمر الوطني يتم مشورتها في مثل تلك القرارات لاتخاذ الرأي مؤكداً أنهم كقوى سياسية لديهم رأي في هذا الأمر وذلك بالرجوع إلى الشعب السوداني في اتخاذ مثل تلك القرارات وليس منبر السلام العادل الذي تسبب في فصل الجنوب وان الحكومة تعود إليه الآن وتستجيب لضغوطه بغرض إحداث أزمة جديدة وان المشكلة الأساسيية الآن في الشمال وليس الجنوب، واعتبر عمر تلك الخطوة تطويراً للعلاقات بين الجنوب والشمال وخطوة لإطفاء نار الحرب المتقدة في النيل الأزرق وجنوب كردفان، لكنه قال (منو البكلم النعامة المدخلة رأسها في الرمال دي)، في إشارة لمنبر السلام العادل ورئيسه مطالباً إياها برفع رأسها لرؤية المشاكل المقبلة عليها. غير أن أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية البروفيسور حسن الساعوري انتهج نهجاً أقرب لذلك الذي أظهره منبر السلام العادل فيما يتعلق بالحريات الاربع وقال في حديثه ل(الأحداث) امس إن منبر السلام ليس وحده الذي يقف ضد الاتفاق بل وعلى حد تعبيره - الرأي العام الغالب ضد تلك الخطوة مبرراً ان الهجوم الذي مني به الاتفاق جاء نتيجة اتجاه الوفد الحكومي المفاوض للتوقيع على قضايا ثانوية غير تلك القضايا العالقة التي ذهب من أجلها للتفاوض بإدخاله لقضايا جديدة في وقت لم تحل فيه القضايا الاساسية والعالقة والتي تسببت في توتر الأجواء بين الطرفين. ويذهب الساعوري الى أن وجهة نظره الخاصة في هذا الاتفاق أن توقيته لم يكن سليماً لكن الهدف منه مشروع وهو أن تكون هناك حريات بين البلدين، راهناً تطبيقها بالتوصل الى علاقات ودية بين الجانبين لتطبيق تلك الحريات لجهة ان القضايا التي يحويها اتفاق الحريات ليست قضايا عادية بل تعني - على حد وصفه - حال تطبيقها عودة الجنوب للشمال وعودة الشمال للجنوب مرة أخرى.